أقلام حرة

عقيل العبود: حسينية الملة ادريس وآذان زائر مَجِيد وأيام زمان

akeel alabodايام زمان كان في المحلة مسجد بسيط، والحكاية تعود في جذورها الى سبعينيات القرن المنصرم، وهنالك في المسجد كان ملة يسمى الملة ادريس، وهذا الرجل ببساطته المعهودة كان يجيد التحدث بالعربي الفصيح، فمثلا عندما كان يسال أي احد في المحلة عن اخيه، يقول له كيف حال فلان، وهل هو بخير، ثم يتبعه، اسال الله له العافية والصلاح، وهكذا هي طريقته بالتحدث، وفي مجالس العزاء، حيث كان أعداد الموتى انذاك بمحدوديته، يمنح العزاء مكانة تكاد ان تختلف تماما في مؤثريتها عن هذه الايام، حيث يوم تفقد المحلة شخصا ما، الجميع يرتدي السواد، ويأتي آلى مراسم العزاء، ويتم استقبال المعزين في هذه الحسينية الصغيرة، والتي تراها سرعان ما تتسع بمساحتها المطلة على الشارع لاستضافة اي شخص يأتي لأداء المراسم، وطبعا في ذلك الزمان ترانا نلتقي مع آناس يجتاحنا الشوق لرؤيتهم، خاصة أولئك الذين يسكنون في محافظات خارج المدينة، وعلى هذا الاساس يصبح للحزن معنى، وللعزاء قيمة حقيقية، حيث الجميع حتى الأصدقاء تراهم يعلنون حزنهم بصدق على الفقيد، اوالمتوفى،  فالحسينية هذه البقعة الصغيرة من الارض كانت البيت، وكانت الوطن الذي نحزن فيه ونلتقي، نفرش الموائد ونصلي معا. نعم كانت الحسينية بيتنا الام.

وفقد الأحبة مقولة  تهم الجميع، ومن الجدير بالذكر ان سبب الوفاة يعد عملا مهما بعد الفقدان، ولهذا تجد ان القائم  بعمل التشريح يشغل اهمية خاصة عند الناس، فهو من خلاله يتم تثبيت سبب الوفاة.

أما عن مراسيم العزاء الحسيني، فقد كان الناس وبلهفة يتابعون الراديو للاستماع الى صوت عبد الزهرة الكعبي، ناهيك عن قدور الطهي الخاصة بيوم العاشر، آويوم العباس، وبالمقابل ايضا تجد كبار الناس يعنى بقراءة القران وحفظ آياته، مع الأخذ بنظر الاعتبار احتساب مقدار وقيمة الزكاة الواجبة بغية إيصالها الى الفقراء، ناهيك عن حالة الفطرة هذه  التي تعيش كالالهة في قلوب الناس؛ تستهويهم لأداء صلواتهم بطريقة لا تحتاج الى امام جماعة هنا، وآخر هناك.

 الناس جميعا تراهم، يؤدون طقوس العبادة بلا تعقيد، الفرائض الاخرى كالصيام، والحج قائمة على قدم وساق، لا يوجد من يعترض سبيل الصائمين، اوالحجاج.

الانتماء للدين كان له لون يشبه لون السماء، وله رائحة تشبه رائحة تراب الارض المعجون بالمطر، وله رفعة بقدر رفعة الشيخ الذي لا يمتلك في هذا العالم الا مسبحة ولسان يلهج بدعوات الخير والمحبة.

بيوتات المحلة لم تكن كما هي عليه هذه الايام، كانت بسيطة وبطابق واحد، آلا اصحاب العقارات الموروثة مثل بيت صاحب عجام، أوزامل المناع، اوبيت الحمداني، وفي سوق الشيوخ ايضا أنفار وهم من اصحاب الدواوين مثل بيت الهداوي، الحاج عبد الرؤوف، كاظم الشاهر وغيرهم هنا او هناك،

ورباط الكلام ان اصحاب رؤوس الاموال يشبهون بطيبتهم طيبة الملة ادريس، كانوا يحبون الفقراء والدعاء للمرضى والمحتاجين، ولكن لكل واحد منهم طريقة لمساعدة الناس،  والتعامل بتواضع لا يقدر القيام به اليوم تجار السياسة ومن حذا حذوهم من السماسرة.

السلطة انذاك لم تكن تشغل حتى كبار الناس؛ الكبار كانوا يقولون ابتعدوا عن السياسة؛ احدهم والدي، الذي لم تفته تجربة من سبقوه، كان يقول انتم طلاب، فابتعدوا عن السياسة:  "لان العراق اول وتالي، طابوكة طابوكة، راح يكون تحت سطوة ابو ناجي" ، وأبو ناجي يدل على ان البلد سوف لم يكن بأيادي امينة، فالقائمين، على السلطة اليوم مثلهم مثل ابو ناجي،  لا يهمهم من العراق آلا سرقة موارده واستنزافه بحثا عن الثراء.

ومعادلة السياسة طبعا لا تختلف عن معادلة الدين. فالدين الذي كان تشغله الفطرة، صار اليوم وسيلة وطريقا للابتزاز، او العيش، فالمتسارعين كثر والمتزاحمين اكثر.

الناس جميعا لم يبق لهم من الدين الا ما أحب تسميته ب"التسارع"، اقصد التزاحم على حساب الايمان ومبادئ الاسلام الحقيقية، وهذا ما نراه واضحا حتى مع تشييد مساجد جديدة لاستخدامها وسيلة للbusiness، وتشغيل مجموعات لا حصر لها من البطالين،  ممن تراهم اليوم يبحثون عن طرق ما لرواتبهم من خلال هذا التسارع.

النتيجة لقد افتقدنا حسينية الملة ادريس، وملة عبود واذان زائر مَجِيد، ليحل محلها مساجد مؤثثة وأصحاب عمائم لا نعرف انتمائهم وعناوين علاقاتهم مع هذا التيار اوذاك.

 لقد فقد الانسان انتمائه الى الوطن، ولوثت السياسة حقيقة ما جاء به الدين، فقد الناس جميعا اهم ما تبقى لهم، وهو فطرتهم التي كان يجب ان تبقى متلازمة مع مشاعرهم، بعيدا عن دهاليز هذا العصر الذي تشغله اليوم لغة التطفل على هذا الشعار، اوذاك. فيا ليت حسينية ايام زمان تعود، ودعوات الملة ادريس، وآذان زائر مَجِيد، والحاج عبود تعود مرة اخرى. 

 

عقيل العبود  

 

في المثقف اليوم