أقلام حرة

صادق السامرائي: اللغة والبشر!!

البشر مخلوقات لغوية، ولا يمكنها أن تكون موجودات صامتة، فاللغة من أهم علائم حياتها وآليات تفاعلها، ولولا اللغة لما تحققت الحياة وتطورت.

وأنى تكون اللغة يكون الناطقون بها، والموجودون فيها، والمتحققة بهم.

فاللغة مرآة أحوال البشر !!

كنت في اليابان، وتعبت من البحث عن شخص يتكلم غير اليابانية، وعندما سألت صاحبي الياباني عن السبب، أجابني : الشعب لا يحتاج لغة أخرى، فلغتنا تكفينا، ونفخر بها وتفخر بنا!!

صعقتني كلماته، فاللغة تتفاخر بأهلها، وهم يتفاخرون بها، وتلك حقيقة سلوكية بشرية ذات قيمة حضارية وإبداعية وإنسانية، فالعزة تتحقق بعز اللغات، والقوة تكون بقوة اللغات، والمجد يتجسد بمجد اللغات!!

ولايمكن الفصل بين أحوال الأمم والشعوب وأحوال لغاتها، فإن سطعت لغاتهم وإنتشرت، فهم الساطعون السائدون، وإن خبت لغاتهم وضعفت، فهم الضعفاء المُستعبَدون.

وكم إنقرضت أمم بإنقراض لغاتها، فالمسيرة البشرية تحدثنا عمّا لا يُحصى من الأمم والحضارات، التي إندثرت بإندثار لغاتها، ولهذا تجدنا أمام آثار مكتوبة بلغات نجهلها، وقد فككنا رموز بعضها كالسومرية والفرعونية وغيرها من الأبجديات الغابرة.

ولكي تقضي على الأمة عليك بإستهداف لغتها، بإضعافها والإستهانة بها، وتقليل أهميتها، وتصغيرها عند أهلها، ودفعهم لكراهيتها والنيل منها، والسعي نحو لغة أخرى غيرها، لكي تلد الأمة أجيالا مضادة للغتها وتنكر أبجديتها، وتذوب في غيرها من الأمم، حتى لتضيع الهوية والعلامات الفارقة، وتصبح اللغة تراثا أو تأريخا، وبمرور القرون تندثر وتغيب.

وما يحصل للغة العربية يصب في هذا الإتجاه، ويسعى لتغريب أهلها عنها، وتعجيم ألسنتهم، وتدمير ثقافتهم، وتجفيف ينابيع مفرداتهم، وتغريرهم بإعتماد لغات أخرى غير لغتهم، وإيهامهم بأن المشكلة في لغتهم، وعليهم أن يتخلصوا منها لكي يتقدموا ويعاصروا، فلغتهم هي معين البلاء، والمتهم الأول بويلاتهم ونواكبهم، وتلك إدّعاءات نكراء.

فمن هم العرب بلا لغة عربية؟

ومن هم الفرنسيون بلا لغة فرنسية؟

وقس على ذلك، فاللغة لها علاقة صميمية بالوطنية والأمة والحضارة الإنسانية، فلا توجد مسيرة بشرية متميزة من غير لغة متوافقة معها.

والعرب عندما أبحروا في محيطات لغتهم، وحلقوا في أكوانها المتسعة الشاسعة، إستخرجوا جواهر القدرات والطاقات الحضارية، التي أهلتهم للقيادة والريادة والإقتدار الإبداعي الأصيل.

وبإبتعاد العرب عن لغتهم ، ضعفت عقولهم، وخوت أفكارهم، وترعرعت في مستنقعات وجودهم العواطف السلبية، وتحوّلوا إلى موجودات منفعلة، عاجزة عن التعبير بلغتها عمّا فيها، ومُسخرة لردود الأفعال الإنعكاسية السيئة النتائج.

وعليه، فأن من الواجب والمسؤولية المصيرية أن يهتم العرب بلغتهم ويحترمونها، وينطقونها ويكتبون بها بإنضباطية نحوية صارمة، لكي ترقى عقولهم وتتهذب نفوسهم وتنير أفكارهم.

فاللغة هي الأرضُ والإنسانُ والفِكَرُ !!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم