أقلام حرة

حميد طولست: التنابز الإلكتروني

hamid taoulostإذا تتبعنا الانفجار الكبير الذي عرفته الثورة الإليكترونية والتطورات الهائلة التي حصلت في تقنياتها الرقمية، واستعرضنا ما ابتكرته من أسلحة الانترنيت (الفيسبوك والتويتر واليوتوب)، التي تجاوزت في مدة وجيزة كل الأسلحة التقليدية النووي أو آبار البترول والغاز، وغيرها من مميزات القوة الكلاسيكية التي كانت ترتب على ضوئها الشعوب والدول وتعتبرها مدخلا أساسيا لقوتها، لأدركنا عمق الثورة المعلوماتية التي يعيشها العالم اليوم، وللمسنا مدى خطورة تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي هزت مضاجع الأنظمة المترهلة وأحرجت الحكومات الفاسدة وأرعبت المستبدة منها، ونزعت عنها ما تخفت تحته من أثواب التقوى والصلاح مند عهود .

لقد انطلقت هذه القوة الناعمة المخملية لدى الشعوب الغربية بما يناسب طبيعة ونفسية مجتمعاتها الحرة والمتحررة والمؤدبة والمهذبة والدمثة في خطابها اليومي، كحركة قاعدية للاحتجاج على الأوضاع الفاسدة وللمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، مسلحة بمستوى عال من الفهم والوعي وليونة التفكير والتعامل بروح الحوار وتقبل النقد البناء، المعتمد كلية على الانتظام والانضباط والسلوك السلمي الحضاري في الاحتجاج عبر صفحات التواصل الالكترونية الغربية المنضبطة والمحترمة، التي لو قارناها بمواقع التواص العربية، لوجدناها عبارة عن أسواق "للغوات" والتنطع وقلة الأدب ومهرجانات للتجريح والغلو في الاستفزاز والتكفير والذبح، التي تفننت في إبداعه أذهان فقهاء الحقد والكراهية، العاجزة عن التفكير والانفتاح المعرفي، والعقول الجامدة التي تعيش لاشعوريا مآزق اللاشيء، وتمتنع تلقائيًا عن النظر إلى أي مساحةٍ معرفية تقع خارج خزائن محفوظاتهم المعرفية ومألوفاتهم التي النمّطية، التي حولت مواقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك "و"تويتر" إلى ساحة لتبادل والسباب الثقيل، وشكل من أشكال الاعتداء على الآخرين، وصنف من صنوف العنف الحضري المتعددة الأشكال، والأبعاد المختلفة، التي تترك أثارها السلبي على التفاعل الإنساني، بدل أن يكون ميداناً لتبادل الأفكار والتثقف والصراعات العقلية التي ترقى إلى مستوى التدبير والاستعمال العقلاني المفيد.

الأمر الملموس بين الرعاع الإلكتروني الذين يعيشون عقد اللاانتصار، وعقد الهزائم الاجتماعية والاقتصادية و السياسية،في العرب عامة  وغوغائييه في المجتمع المغربي خاصة، الذين ما أن يبدؤون بالرد على أية تغريدة يكتبها أي منتفض في وجه الظلم على "الفيس بوك"، أو يبثها من لا يتبنى مشروعهم، ويرفض طغيان الزيف وتقديس لغة الواجهة واحتقار الأعماق، حتى يتحولوا إلى "شمكارة "من أولاد شوارع بامتياز، عبر "الفيس بوك والتويتر"، وتأتي معظم تعليقاتهم بعيدة كل البعد عن موضوع الفكرة الجادة التي يواجهونها بكل أساليب القمع والمساومة والتشكيك في مصداقيتها، ويتهمون أصحابها بالخيانة والعداء للوطن والتآمر على وحدته الترابية، وذلك بلغة غاية في البذاءة والصفاقة والسقوط الأخلاقي، وكأن مهمتهم إخلاء هذا الحيز الالكتروني الجميل من الفكر والثقافة وتحويله إلى منتدى للتنابز بسخافات الألقاب وترهات الاتهامات وصغائرها، بكلّ ما تحمله مصطلحاتها من تفاهات واقعيّة فكريّة، وليس لغويّة مجازيّة فقط، تفاهة في الأهداف، وتفاهة في الممارسة، وتفاهة الاندماج في العبثيّة، التي يعوضون بها عن جهلهم ونزقهم، ويفرغون فيها مكبوتاتهم وأحقادهم المستشرية كالطفح في النفوس والضمائر، ظنا منهم أنهم يستطيعون بذلك أن يتستروا على دمامة أفعالهم، وتخلف سلوكياتهم، وإخفاء قبح ما تسببوا فيه من معاناة لمستعملي هذا الفضاء الرحب، والإيقاع بهم في مطب الانشغال عن الحقيقة، وتجنب الخوض  في كل تفكير جاد يثير النقاشات العمومية المؤطرة للجماهير ويوجهها لانقاد البلاد وتحريرها من كيد لوبيات الجهلة والمشعوذين المتخصصة في دعارة تقنيات التواصل الجماهيري -إن صح التعبير وفسادها- التي جعلت الفيسبوكيون الشرفاء ينظرون بعين الرّيبة إلى أفكارهم الرصينة وحتى أحلامهم .

خلاصة القول هو لابد من الاعتراف بأن هذا لا يعني أنه ليس في مجتمع التواصل الاجتماعي المغربي غير هذا النمط الضّعيفة الهزيلة، والمكبوب على وجوهه في الوحل ويجرّ أذيال الهزيمة، كما يقال، بل هناك حركة شبابية فيسبوكية قاعدية من حقنا كمغاربة أن ننبهر ونفتخر بمستواها العالي من الفهم والوعي و ليونة في التفكير المعتمد كلية على الانتظام والانضباط والسلوك السلمي الراقي والتعامل الحضاري في الاحتجاج والمطالبة بالمطالب العادلة، شباب هم عماد الأمة والمستقبل وأنهم صانعوا المعجزات وهم الذين سوف يحملون أوطانهم إلى بر الآمان طالما أن هناك عقل وحرية و( فأر وكلافيي ) والعاقل من يأخذ العبرة من الفارة.

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم