أقلام حرة

صادق السامرائي: الإدراك الأرضي!!

البشرية تعيش مرحلة الإدراك الأرضي الدوار الذي لا يعرف التوقف والسكون ولو للحظة.

البشرية تمكنت من إلقاء نفسها في تيار الوجود الصاخب وأصبحت جزءً حيا منه.

فالأرض تصاغرت وتم ضغطها في قبضةِ كفٍ وإيداعها في جيب، ومعنا نحملها وتحملنا، وهذا من أعظم عجائب وجودنا المعاصر، الذي سيترتب عليه نتائج لا تخطر على بال، ولا يمكن لخيال أن يمسك بأطرافها.

فما نعيشه اليوم، كان خارج خيال البشر قبل عقدين، وما سيتحقق بعد عقدين لا وجود له في خيال اليوم،  وفي هذا السباق الدوراني المتسارع تخلف ما فينا عن المستجدات الناهضة في محيطنا.

ذلك أن الذين يفكرون ويبدعون هم أفراد تنساق لإرادتهم البشرية جمعاء، وهؤلاء الأفراد المبدعون هم قادتنا الحقيقيون وأسيادنا، ونحن المستعبدون بمخترعاتهم، ومبتكراتهم التي أصبحت لا تنفصل عن حياتنا، بل وتلازمنا طيلة يقظتنا، وفيها نصب نشاطاتنا وتفاعلاتنا المتنوعة، هؤلاء هم الذين جعلوا الكبير صغيرا والمستحيل ممكنا، وفتحوا لنا أبوابا لا تُغلق في آفاق الآتيات وأطلعونا على مروج المطلق.

فنحن كالأطيار المحلقة في فضاءات الكون المتسع، وما عدنا مأسورين في صندوق المكان ومقيدين بقوة جذب الأرض.

لقد أصبحنا نتواجد في عدة أماكن في وقت واحد، وفي عدة أزمنة في مكان واحد، أي أن العلاقة ما بين الزمان والمكان قد إنعدمت، فكل شيئ إنتقل إلى مدارات الإفتراضية وصار خاضعا لقوانين الفيزياء الكمية.

ولهذا فأن التفاعل الدماغي والتواصل العقلي سيكون حرا ومتداخلا، بل ومنطلقا بأنغام وإيقاعات مشتركة أو متماهية.

أي أن العقل الفردي ما عاد فرديا، والتفكير إكتسب درجة التفاعلية المطلقة، التي قد تحقق إشتراك ما لا يحصى من العقول في التصدي لقضية ما في زمان ما وأماكن لا تحصى، فالبشرية أوجدت طوابير عقول تجابه تحديا واحدا، وبهذه العسكرة الإدراكية إنمحق المستحيل وإنتصرت إرادة العقل على إرادة التراب.

ولهذا فأن التفسير التأريخي للتحديات ما عاد صالحا وجديرا بالإعتبار لأن ما يتحقق في الوعاء الأرضي، لم يعرفه التأريخ ولم يواجه الأجيال السابقة، التي تدحرجت على سطح التراب.

كما أن الأدمغة البشرية الحالية ذات ترابطات عصبية غير مسبوقة، بسبب الضخ المعلوماتي الهائل، والمنبهات والمحفزات المتأججة في أرجاء المحيط أيا كان نوعه.

وهكذا تجدنا اليوم إزاء مدارك تتلاقح وتتنامى، وتسعى للتعبير عن براعم ما فيها من الطاقات الفياضة.

وكأننا غادرنا معاقل الأدمغة وحطمنا جماجمنا، وتحولنا إلى طاقات إفتراضية متداخلة، ذات قدرات إستلادية فائقة، من رحم خيال الذات المتّسعة!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم