أقلام حرة

من اية طينة هو الانسان..؟

ان اي خوض في المعيات التي تلازم حركية الوجود البشري على الخراب المسمى بالمعمورة "الارض" سيولد كماً هائلاً من التناقضات التي تتعدى حدود الاستكشافات العلمية والدراسات التخصصية، بل انها تعقد الامور الماورائيات نفسها لاسيما تلك التي تعتمد الطوبائية او الميتافيزيقية في توصيفاتها للحالات البشرية بصورة واخرى، فالبشر اللا انساني وجد بتصور سبقي، وهذا التصور السبقي حسب الميثولوجيا الطوبائية ليس قابل للنقض، ولكونه ليس قابل للنقض فانه حتمي والحتمية تستوجب وجود فعل مادي حركي لاثبات ذلك، ولان البشر هم الاداة الاكثر توظيفاً للحراك الميثولوجي المبني على المخيلة قديما والممنهج فيما بعد، فان افعاله واثارها هي التي توضع تحت المجهر لاجراء الدراسات ووضع المعايير واثبات وجهات النظر وفرض النظريات او طرح الافكار وفتح مساحات النقاش والجدل.

وليس بمخفي على احد ان انسنة الانسان وفق اية "معايير تبقى ناقصة غير متكاملة" ، وذلك لكون الانسان نفسه عنصر رغباتي شهواتي تفكيري عقلي عاطفي انفعالي غير ثابت، بل متقلب بدرجة لايمكن وصف معالم ورسم حدود لفيئات تعميمية، وبذلك تتحول الدراسات الى وجهات نظر حتى وان بدت علمية متقنة وفق معايير دقيقة وصارمة، لكنها في الاخير تبقى ضمن هياكل اجتماعية حتى ان بدت منوعة تبقى رهينة الميول والدوافع الذاتية للاشخاص الخاضعين للتجربة التقيمية، وهذا ما يجعلنا نوجه السؤال وبدون تردد ما هي طينة الانسان.. اذا سلمنا ميثولوجياً انه مخلوق من الطين..؟.

ان اية وقفة على الفعل البشري الانساني منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا، سنجد بأن اكثر ما يوصف به الانسان هو اللاانسانية العدوانية العنف القتل العمل على ازاحة واقصاء الاخر سواء باسم رغبته الشخصية وميوله الذاتية ودوافعه النفسية وتراكماته العقلية العقدية، او من خلال رصد الموروثات الشعبية والدينية، وسنجد في الوقت نفسه ان اية ظاهرة او حركة اصلاحية وجدت وظهرت في الوجود الارضي لديها غرض واحد وهو كي تعيد الانسان الى الطريق القويم والصحيح، وهذا بالضبط ما يثير التساؤل السابق الذي اثرناه، وبالتالي كيف يمكن وقف هذا المد اللا انساني من الانسان الذي يفترض انه من اوجد المفهوم الانساني بفكره تبعاً للرؤية السبقية التي اوجدته كأنسان، وليس خضوعاً للسبقية الفرضية الحتمية التي اوجدته كمخلوق خاضع لسلسلة مفاهيم معقدة، او تصورات متشابكة كالتي وجدت عن المخلوق الاول حيث وصف مسبقاً، اي بينما كان مازال مجرد فكرة فوقية بانه سيسفك الدماء، ويفسد في الارض.

لابد من الرجوع الى جذور ومكونات تلك الطينة التي وجد الانسان منها ودراستها لمعرفة المترتبات السبقية والبعدية التي اوجدت الانسان البشري بهذا الشكل اللامنطقي واللاانساني المهيمن عليه النزعة الاغترابية الذاتية فتحول الى وحش كاسر منذ الوهلة الاولى تبعاً لشهوته حتى اصبح يؤثث عوالمه الذاتية بعيداً عن الجمعية التلاحمية، وتأكيداً على الرؤية السبقية التي ظهرت عنه تزامناً مع قرار خلقه، فلعل الدراسة تلك توضح بعض المعالم الغامضة التي لم يزل الانسان عاجزاً عن خرق جغرافيتها، لاسيما فيما يتعلق بقدرته الاقصائية وامكانياته الكبيرة في فعل اي شيء" القتل" من اجل الابقاء على نفسه ولو على حساب كل من حوله.

فوفق دراسة جديدة أعدها متخصصون نفسيون في جامعة "موناش بمالبرن" الأسترالية، أنه ليس من السهل الإقدام على القتل أو اتخاذ هذا القرار القاسي، فحتى القتلة المتسللين ينبغي عليهم أن يتغلبوا على الكثير من الضغوطات العصبية القوية، من أجل ارتكاب هذه الجرائم، فخلال اتخاذ قرار القتل، يميل العقل البشري إلى الشفقة والشعور بالذنب، بالإضافة إلى نوع من ألم التعاطف، يجعل الشخص يشعر بنوع من الأذى ودرجة من المعاناة تقترب من نفس درجة معاناة الضحية نفسها، وفق ما ذكرت مجلة "تايم" الأمريكية "، وهكذا حتى الدراسات نفسها عاجزة عن تحديد النمطية التي تتبعها العقليات الاقصائية، بالعكس تماماً فان هكذا دراسة تؤيد وتؤكد المقولة التناقضية السبقية التي اوردناها وتجعلنا نعيدها بصياغة اخرى، حول ماهية الميل البشري للشفقة اثناء ازاحة الاخر، فكأننا نعيش وهماً سبقياً يجعلنا نعيش التعاطف ونحن نقتل الاخر ونزيحه عن الوجود على الرغم من سماعنا لصراخه ومحاولاته المتكررة للنجاة واستعطافه لنا بالرحمة والى غير ذلك من الامور التي ترافق هذه العملية اللاانسانية من الانسان.. ان التناقض لايقتصر على المقولات الميثولوجية المنبثقة من تصور ديني فقط بل تنبثق من الاجمالية التي صنفت الانسان انساناً وهو لايحمل من معاني الكلمة الا الهيكل الخارجي، فكيف يمكنه ان يتعدى مكوناته السبقية الخلقية كأنسان سيحقق التصور السبقي عنه بانه سيسفك الدماء، انها المعضلة الاكثر تعقيداً من حيث التداخل والتشابك بين المفاهيم والاوامر والحتمية والجبرية وحتى التخيير والتسيير الممنهج دينياً.. بالطبع كل هذا بعيداً عن الرؤية القائلة بان تلك السمات الازاحية الاقصائية هي اكتسابية لاسيما من البيئات التي تتأثر بجملة امور خارجة عن هذا النطاق الحتمي، لاننا وقتها سنقول بان اللاحتمية نفسها هنا تناقض وجوديتها لكونها وفق السبق البيئوي وجدت تحت ظرفية لم تكن للبيئة وقتها اية تأثيرات عقدية او عقلية او حتى ظروف تعقيدية حياتية، بل اتت وفق منهجية الحتمية القائلة بالسفك السبقي لا اكثر، لكون تلك الرؤية كانت دقيقة كدراسة ممنهجة بدون معايير وقتية او تحديدات وسائلية، فكان البدء بالاقصاء استكمالاً لتلك المقولات او خضوعاً لتلك للحتمية.. ولم يكن للبيئة هنا اية مؤثرات وتأثيرات، انما فقط كان الامر متعلقاً بالرغبة والشهوة والبدء باحداث انموذج بشري لاانساني قائم على الوحدوية المتسلطة واخضاع ما ليس هو لكينونته..متنافياً بالمقولة ان البيئة او ان هناك من يدفع الانسان الى الجريمة خارج الاطر الذاتية الساعية لتحقيق الحتمية السفكية السبقية اولاً ومن ثم بعيداً عن الرغبة والشهوة التي اظهرت صورته الحقيقية منذ الوهلة الاولى،  وحين نغوص في التاريخ الانساني على الخراب الارضي سندرك تماماً ماهية الطينة التي خلق الانسان منها، حتى وان كنا لن نلامسها مادياً، فهذا التجذر العنفي الازاحي متغرس فيه فطرياً، وليس هناك من فسر هذه العفوية وهذه الحتمية واقعياً بشكل واضح مثلما فعله الفنان الرائع مايكل انجلو في احدى اعماله الرسمية حين رسم البراءة في صورة طفل، و ثم صورة لشخص يمثل الاجرام في صورة قبيحة تبرز كيان وهوية وسمات المجرم القاتل، والذي ادهش انجلو نفسه بعد حين هو ان الصورة الاولى التي كانت رمزا للبراءة متمثلة في طفل رضيع هو نفس الشخص الطفل البريء في الصورة الثانية التي تمثل الجريمة والمجرم، فالعملية هنا اتت تزامنية لااكثر،واعتقد انه ليس الا تصوير عفوي لتجذر العنف في النفس البشرية الانسانية منذ الوهلة الاولى " الفكرة " لذا كانت الحتمية وقتها مزامنة ومرافقة للهيئة او الهيكل الذي وجد الانسان عليه، فاصبحت المسارات التخييرية هي بوجود الانسان الشهواني الاقصائي مجردة من فعاليتها، اذا لم تكن اصلا غير مصوغة لتلائم حجم الكارثية التي سبقت الخليقة وتزامنت معها، ورافقتها لوقتنا هذا، وستبقى لاجل غير مسمى.

 

جوتيار تمر/ كوردستان

 

 

 

في المثقف اليوم