أقلام حرة

اللغة وكيف يوظفها المتشددون في جرائمهم الكارثية

من منا (نحن متوسطي الثقافة باللغة العربية) لم يتلعثم عندما يقرأ بعض الكلمات في الآيات والسور القرآنية، متحيراً بين الكسر أو الضم، أو الفتح فوق أو تحت حروفها (وكل حالة من هذه الحالات لها معانيها ومدلولاتها المختلفة) (ومن منا يستطيع أن يفسر الآيات القرآنية بدون لبس أو غموض) وذلك ليس بسبب نقص ثقافتنا العامة، وإنما يرجع ذلك إلى أن اللغة التي كُتب فيها هذا الكتاب، وهي تملك اسمى صور السحر البلاغي قد خاطبت شعباً كان يمتلك الفصاحة اللغوية، وحتى من لم يتعلم الكتابة منهم كان يستطيع آنذاك أن يفهم ويتحدث بنفس الفصاحة.

ومرّت علينا قرون من الزمن، وتعددت اللهجات، وبدأ المسار الحرج عندما التقى الأميّ (الجاهل بأبسط معاني وقواعد اللغة العربية الفصحة) عندما التقى بابات وسور قرآنية ذات حبكة لغوية مُعجزية، وذات سحر بلاغي يصعب أحياناً على بعض أستذة اللغة التمييز بين مدلولاته، فقد تكون هنالك كلمات لها سحرها عند البعض وفق فهمه لها، ولكنها تمثل كوابيساً عند الآخرين، وقد تعني عند البعض الآخر، بأنها لا تعني أي شيء يذكر.

ومن هذه الكلمات، تبرز لدينا كلمة الجهاد، والتي سأحاول أن أتحدث عنها في هذا المقال، والتي يفهمها بعض المسلمين بشكل مبتسر ففي الجزيرة العربية أو جنوب ووسط وغرب العراق أو في شمال افريقيا (في البلدان التي كانت تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، وفرض عليها تعلم اللغة الفرنسية بالقوة)، وفي بلدان إسلامية أخرى (عربية أو أعجمية) كل هؤلاء وقد وقع الجور عليهم لسنين طويلة من الاضطهاد سواءً من داخل بلدانهم أو بسبب السيطرة الامبريالية على بلدانهم .. وعادوا في صحوة صوفية، ليواجهوا واقعهم المرير بالتدين والمنهجية السلفية، حتى وأن كان ذلك دون فهم واضح لمنهجيات ورؤى الموروث الديني، وذلك للهروب من الواقع المرير الذي هم فيه، واصبحوا ينظرون إلى الدين على أنه قضية وطنية تمس حياة كل الناس والتبست عليهم معاني ومفاهيم الدين.

جلست مرة في مسجدٍ بإحدى الدول العربية لاستمع إلى خطبة الجمعة، فإذا بإمام المسجد ينهي خطبته بدعاء هذا نصه الحرفي.. (اللهم أهلك اليهود والنصارى، وشتت جمعهم، ويتم أطفالهم ورمل نساءهم و..و...) وكل جميع الحاضرين يؤمن على دعاء الشيخ الأمام.. ذهبت بفكري بعيداً وتصورت أن هذه الدعوات تتكرر منذ أمد بعيد وقد تفنن الأئمة في تشطير الدعوات بالهلاك والدمار، والفناء.. وتصورت بفكري وأنا في المسجد إنني أجلس في كنيس يهودي فوجدت حاخاما يدعو لإبادة العرب "لأنهم يسعون لإبادة اليهود حسب زعمه.. وقد خرجت من الكنيس اليهودي مهرولاً، فلقيت قسيساً يتلو صلواته التي في ظاهرها الرحمة.. وقد واجهني بابتسامة لم أتبين معناها .. فأين"الجهاد"؟ ومن المجاهد؟

إننا ندري جميعاً بأن رسول الله (ص) كان يحاور اليهود والنصارى، وكفار العرب، وكان يجادلهم بالتي هي أحسن، فكيف يكون جهاداً ما نراه من أحداث؟ وهل كل الأرواح التي أزهقت في تفجيرات قطارات اسبانيا، ومترو لندن وأحياء بغداد وأسواق ومدارس وميادين المدن العراقية، هل كانت أرواح هؤلاء الناس كلها شريرة.

وحتى ضحايا تفجيرات نيويورك وواشنطن، وكيف يقبل الناس أن يكون جهادك في قتلهم؟

يموت الغير فتدخل أنت الجنة تحت مظلة "الجهاد" ولماذا يرتبط "الجهاد" بالموت في اذهان البعض رغم أنه حياة .. فالجهاد إحياء.. لا دمار في الجهاد، لا غدر في الجهاد، وقد يكون لا مباغتة فيه أيضاً... فهذه أشياء لم تكن هدفا للجهاد..

فالجهاد انتصار واضح للحق، ودعوة للحياة، ونعرف أن الغزوات والفتوحات دعوة لدين الله أو جزية .. ثم يأتي بعد ذلك القتال، وقد فرض وهو كُرهٌ لكم.

والجهاد طريق للخير، لا أشواك فيه ولا أهواء .. وهو علم بذاته .. وأولى أساساته، عدم الاقتداء بما يفعل الخصم.

فحتى وأن بطر الخصم نجد أنه من عفى وأصلح فأجره على الله.

للجهاد أوجه كثيرة وأقلها الاقتتال، فمغالبة النفس جهاد.. ومحاربة الفساد جهاد.. وحماية البيئة جهاد.. والحرص على الأمانة جهاد.. والدعوة لدين الله بالموعظة الحسنة جهاد.. وحب الآخرين جهاد.. والدفاع عن الحياة من خطر الموت جهاد.. والمعاملة الحسنة جهاد.. ومنها معاملة الوالدين ..ففيهما جهاد.. والجنوح للسلم جهاد.. والتقية جهاد.. والاضطرار جهاد ومقاومة الأمراض جهاد، والقضاء على الجهل والفقر جهاد.. واحترام الجار القريب والبعيد جهاد، وكل سكان الأرض جيران، هكذا هو فقه الواقع، أو الفقه الشامل.

كل إنسان على الأرض يهمه "الجهاد" فلاحق لأحد أن يدعي أنه يجاهد دون غيره.

إن عمارة الأرض، وإقامة العدل، وإنصاف المظلوم، ومكافحة الفقر والجهل هو جهاد من الدرجة الأولى.

إنني أقول لهؤلاء الجهلة، إذا أصبحت شهوة القتل لديكم هي دينكم (فلكم دينكم ولي دين).

لم يكن هدف الدين هو منح السعادة والهناء في الآخرة وسحق وإذلال الناس في هذا العالم.

يبقى السؤال المحير: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟ أنظل نكتب في صحف ومواقع الشبكة العالمية، لاناس لا يقرأون ولا يكتبون؟ ومن يوصل إليهم صوتنا؟ أم هل نستكين ونقبل بالواقع البغيض، وقد ضجت قبورنا بضحايا هؤلاء الجهلة؟ وخيام البؤس تتجدى إرادتنا، وتطعن كرامتنا.

إن كل خيمة تُنصب لمهجر في بلاده وفي الأراضي الموحلة، هي وصمة عار في جبيننا .. لقد تخلى بعض الناس عن أحلامهم الكبيرة في أن يكون لم وطنناً حراً سعيداً يفخرون به.

وشغلهم عنها حلم واحد صغير جداً، هو أنهم كيف يستطيعوا أن يبقوا على قيد الحياة.

 

هاشم عبود الموسوي

في المثقف اليوم