أقلام حرة

الحملة القذرة

لم تشهد تونس في تاريخها الحديث حملة مسعورة كتلك التي استهدفت، ولا تزال، و ستتواصل بدون شك، الدكتور المنصف المرزوقي. فلقد عاش مطاردا لدرجة التجويع خلال العشرية السوداء لنظام بن علي وعندما عاد من هجرته القسرية، بعد الثورة، تم تعنيفه بساحة القصبة، ما يعني أن الأجهزة المرتبطة بالمصالح والنفوذ لم تختفي تماما حتى في أوج الثورة . وأثناء الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي تم التركيز بصفة مَرَضية ومُبَيتة، عبر وسائل الإعلام وغيرها، عن موضوع تحالفه من عدمه مع النهضة، دون الاهتمام البتة ببرنامجه الانتخابي أو مناقشة أفكاره التي دفعت للتقارب بين ما ما يسمى علمانيين وإسلاميين معتدلين كما  ثبتت وجاهة دعوته إعطاء الأولية للانتخابات البلدية محذرا من ان المرحلة الانتقالية وإعداد الدستور تتطلب ثلاث سنوات أو يزيد، وهو ما تم فعلا. وعندما دخل قصر قرطاج، انبرت الأقلام والمواقع تَحْبِك قصصا وحكايات عن الرئيس المؤقت (أكثر كلمة رددها وأكد عليها الإعلام التونسي بعد عبارة فخامة الرئيس في وقت ما) معظمها مبالغات إن لم تكن أكاذيب تجاوزت حتى حدود تونس، فالزيارة المطولة التي أداها محمد السادس لبلدنا لم تسلم هي الأخرى من القيل والقال والهمز واللمز، ما دفع البلاط الملكي المغربي إصدار بلاغ غاضب، على غير عادته ينفي الخلاف المزعوم بين محمد السادس و المرزوقي معربا عن "الأسف لمستوى الدناءة التي نزلت إليه أطراف" لم يسميها.

قد يُفهم من كلامي أنني أناهض النقد وأدافع عن رئيس الجمهورية ما بعد الثورة بأي ثمن. فلا هذا ولا ذاك، لأنه لا يمكن أن يستقيم شان فرد أو امة دون نقد وحتى انتقاد. فشخصيا، فبرغم الصداقة الذاتية والموضوعية التي تربطني بالمرزوقي، فلقد وجهت له رسالة مفتوحة نقدية عبر جريدة "الصباح" التونسية، كما وجهت نقدا لاذعا إلى حزبه، أي حزب المؤتمر من اجل الجمهورية في جريدة يومية، كما اذكر أنني كتبت مقالا بجريدة الصباح أيضا، عنوانه: "آه لو أستطيع قطع سبابتي اليسرى"، استعرضت فيه ما صرح به شاب، أمامي، قبل نزوله من قطار أحواز عاصمة تونس، لقد عبر هذا الشاب  عن ندمه التصويت لحزب المؤتمر، واذكر انه مسك سبابته اليسرى التي صوتت  متمنيا لو يستطيع قطعها..

لقد انخرط جمهور عريض من الشعب في هذه الحملة عن قصد أو بدونه ، وهنا لا ألوم من جّرّه تيار تلك الحملة القذرة وأصبح شريكا لها وجزء منها

، كما لا ألوم أولئك الذين علقوا آمالا على حزب المؤتمر فخذلهم، وأخيرا لا ألوم من يؤاخذون الدكتور المرزوقي على بعض من مواقفه وأخطائه... فمنهم من تمنى صادقا لو استقال بعد أزمة البغدادي المحمودي، ومنهم من يعتبر أن موقفه من الأزمة السورية غير متوازن ومنهم من قدّر ان أ ثار إصدار القصر للكتاب الأسود كانت سلبية . لكن هذا لا يعني ترديد تلك الاسطوانة المشروخة التي تزعم أن مواقف المرزوقي هي وراء تدمير سورية وتشريد جزء كبير من سكانها وربط استقبال السلفيين من طرف المرزوقي بتفاقم ظاهرة "الجهاديين" التونسيين بالمشرق وغيرها من التهم الواهية والواهنة والتي يعرف مطلقيها خورها قبل غيرهم,

فالأزمة في سورية، تقف وراءها مصالح إقليمية ودولية كبرى تتجاوز حجم تونس وإمكانياتها و أن المرزوقي ضد التدخل الأجنبي في سورية وضد حمل السلاح، متناسين رفعه للعلم الوطني عندما أقدم طالب إنزاله ووضع العلم الأسود مكانه بكلية الآداب بمنوبة بتونس العاصمة.

فلا يمكن أن ننكر وجود حملة متواصلة ضد هذا الرجل. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، فهناك صحيفتان يوميتان تأتيان على ذكره بصفة يومية، لا لنقد أفكاره وموافقة، كما تفعل أي صحيفة محترمة، بل للتشهير به والسخرية منه والتهكم المجاني السخيف عليه.

وما الحملة الأخيرة الا تتويج و تجذير لمسار متواصل لا يتوقف، يُذكّر

 بالماكرثية التي اجتاحت الولايات المتحدة بين سنتي 1950 و1953 والتي تُعتبر سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة، وهي لا ترفض رأي المخالف وحسب بل أن رأيه يُشيطن ويُسفّه،و لقد طُرد 10 ألاف من و وظائفهم بفعل الماكرثية وتم إعدام زوجين اثنين بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي آنذاك.

الحملة الأخيرة انطلقت من حديث أدلى به إلى قناة الجزيرة القطرية، فقامت الدنيا ولم تقعد حيث انبرت كل وسائل الإعلام تدافع عن كرامة الشعب، دون أن يفوضها، التي انتهكها المرزوقي، متجاهلة ان البرلمان الاوربي وقف  يهتف للشعب التونسي من خلال المرزوقي خطيبا، ووصل الأمر إلى رفع قضايا في المحاكم والمطالبة بنزع الجنسية عنه كما تظاهر أنفار أمام منزله بالقنطاوي بمدينة سوسة، كما كان يحدث في عهد بن علي، وكان التاريخ يعيد نفسه.

 يتم ذلك دون النقل الأمين لتصريحه أو مناقشة أفكاره التي تحظى باهتمام عالمي، ولولا جريدة الصباح لما عثرت عن الفقرة الصغيرة  التي بترها الإعلام ، بعد أن أخرجها من سياقها والتي  تتحدث عن الفساد في المجتمع التونسي والتي جاء فيها ان النظام السياسي هو المسؤول عن مظاهر الفساد وان الفساد ليس في جينات التونسي مستشهد ا بسلوك التونسيين المثالي عندما يعيشون في مجتمعات أخرى متطورة.

كان المراد من الحملة الأخيرة إخراج المرزوقي من الحياة السياسية لتوازنات لا تخفى على المطلع. لكن مردودية الإعلام المُدَجّن أو الإعلام المدفوع الثمن ليست دائما كما يأمل أصحابها.

العربي بنحمادي

 

في المثقف اليوم