أقلام حرة

اللغة الشاعرة واللغة المتشاعرة!!

"اللغة الشاعرة": "لغة بُنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية" (عباس محمود العقاد).

  لغة تعبّر عن نفحات النفس البشرية وأمواجها المتهادية بعذوبة وإنسجام، وقدرة فائقة على إطلاق ما فيها من تموجات وأنغام.

وهي لغة حاضنة للنشاطات البشرية بعبقها المعرفي الفكري والفلسفي والعلمي ومنظورها الإنساني المطلق.

هي لغة جامعة مانعة، تستوعب كل إبداع وعطاء وتمنع أي مضطرب وغثاء.

لغة الإنسان والأكوان التي تجلت فيها أمهات أفكار العصور والأزمان، وإنها لغة جنان العرش ومخلوقات الرحمان.

إنها العربية اللغة الشاعرة، وغيرها لغات متشاعرة أو قاصرة عن الشعر، إلا القليل منها، ولهذا إتخذ أصحابها منحى آخر للتعبير عنه، فانطلقوا بكتابة الشعر المفكك أو المنفلت، والذي نسميه حرا أو ديمقراطيا أو سائبا  أو نثريا، وغير ذلك من المسميات، كما أمعنوا في التعبير الموسيقي عن المشاعر والعواطف والأحاسيس، لعجز اللغة عن سبكها بصور متناغمة.

وراحت تعريفات الشعر تتواكب، وكأنه مُخترع من المُخترعات، وليس حالة نفسية إيقاعية متوطنة في النفس البشرية لها قوانينها ومحاورها المنتظمة، كدقات القلب وإنسيابية التنفس وحركة الجهاز الهضمي ونبضات الدماغ الكهربائية، وغيرها من إيقاعات الحياة المحكومة بقوانين وأنظمة منضبطة ومتناغمة.

ووفقا لمناهج التبعية والشعور بالإنكسار والدونية، والتفكير بعقول الآخرين، إنطلق العرب في ميادين الشعر المنفلت، حتى صار ما يكتبونه ضد الشعر واللغة، بل أن الشعر فقد قيمته ودوره في الحياة العربية، فبدى كل كلام يُدْعى شعرا، وكأن الحياة بلا نظام وتوازن وإنسجام.

فآلياته مضطربة وقاصرة التعبير عن الفكرة، وأضحى الشعر للمزحة والنكتة والضحك، وليس لإغناء النفس والروح والفكر، وإستنهاض الوعي وتغذية الإدراك وتهذيب السلوك.

فالمجتمعات التي تعجز لغاتها عن التناسق والتناغم المؤثر، تجنح لتوليد كلمات تحسبها شعرا، لكنها تتحدث عن صور وحالات، وكأنها مقاطع تصويرية لإيصال معنى كامن فيها للمستمع، وكثيرا ما تميل للإثارة والمتعة الفكرية والمزحة، حتى صار الشعر للتفكير والضحك وحسب!!

وقد حضرتُ العديد من القراءات الشعرية لشعراء معروفين، وما خرجت أهداف القراءات عن هذين المضمارين، فأما أفكار وتصورات ولوحات فنية مرسومة بالكلمات، أو مقاطع ذات نهايات مباغتة تثير الدهشة أو الضحك، وكأنها قصص قصيرة جدا بخاتمة غير متوقعة.

ومع هذا فأن هذا الشعر شائع وقراءاته متعددة في معظم المكتبات العامة، التي لا تخلو منها قرية أو مدينة في المجتمعات المتفدمة ، وهو باقة أفكار ومقاطع تعبيرية عن فكرة ذات قيمة فلسفية وجمالية، وما بدى على أنه إضطراب أفكار، وإنما تجميع أفكار في لوحة سريالية مجسمة بالكلمات.

وفي العربية الحالة تختلف تماما عن الكتابة الغربية للشعر، والتي إضطروا إليها لقصور اللغة، وعدم قدرتها على التواصل بقافية واحدة أو التلاحم بإيقاعات منسجمة، ومَن يحاول الكتابة العروضية بلغة أجنبية، يصعب أو يستحيل عليه صبّها بإيقاعات عروضية كما يمكن للغة العربية.

 فحقيقة العروض أنها مُكتشفة وليست مُخترعة، وهي تمثل الإيقاع الداخلي المتواصل في أعماق البشر، ولهذا تجد الذي يستمع للشعر العربي العمودي يطرب له وإن لم يعرف اللغة، لأن الإيقاع يتواءم مع إيقاع الأعماق.

فالأوزان الشعرية العربية لسان حال الإيقاع الكامن في الإنسان، وقد تمكنت اللغة العربية من تحقيق هذا الإنسجام الرائع مع ما فينا من نبضات حياة وألحان نفس وروح.

فالحياة نغم وإيقاع، وإن فقدت الإيقاع إنتفت وتناثرت وإهتزت أركانها وإضطرب بنيانها، ومن الواضح أن الكثير من الكتابات بالعربية، والتي تسمى شعرا حرا تزدحم بإضطرابات أفكار تتفاوت بشدتها، ويمكن لأي طبيب نفسي حاذق أن يرى ذلك وخصوصا في كتابات رواد هذا الإتجاه، مما يشير ربما إلى تعبير عن علل في الإدراك والتفكير، تدفع إلى رؤية التواصل ما بين الموجودات بطريقة أخرى غير معتادة عند عامة الناس.

ومن المعروف أن الكثير من المرضى الفصاميين يميلون لكتابة الشعر المنفلت أو المفكك، وعندما تقرأ لهم تجد هذه القدرة التي تبحث عن علاقات غير مدركة أو متعارف عليها ما بين الأشياء، وقد أشار إلى ذلك في مطلع القرن العشرين الطبيب النفسي (بلوير) في دراسته لإضطرابات تفكير المرضى العقليين.

بينما الشعر العمودي يعبّر عن إنتظام الأفكار ولضمها بعقدٍ إدراكي إيقاعي جامع ومتوالد، له قيمة ذوقية وتصورية ومعرفية، متوافقة مع نبضات الداخل الحي المتفاعل مع ذاته وموضوعه.

كما أن الشعر العمودي ينظّم التفكير ويبرمج الدماغ ليكون قادرا على الإنتاج المُنظم، والمتوافق مع إيقاعات الحياة الفاعلة في الأيام والأجيال، ولهذا تواصلت قدرات المحافظة على الأصول والتقاليد والأعراف في المجتمع العربي، لأنه يخضع لدماغ مُنظم ومُبرمج وفقا للمؤثرات الإيقاعية للشعر، وبفقدان دور الشعر العمودي في الحياة العربية المعاصرة، عمّ الإضطراب والتفكك والإنفلات والتناثر، وصار السلوك حرا أو مفككا أو نثريا، وفقا لما يتأكد من إضطرابات وإختلالات تعبيرية ذات باثولوجية عالية.

فهذا الإنتقال الذي أصاب الشعر العربي، قد تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشر في إنحراف السلوك، وهناك علاقة زمنية ما بين إضطرابات السلوك العربي وبدايات الإبتعاد عن الشعر العمودي، فمنذ الخمسينيات والعرب يعيشون في مضطربات متلاحقة، لأن دواخلهم  إضطربت، وسلوكياتهم إنقلبت، بما أصابها من فقدان البرمجة الدماغية المتوافقة مع البرمجة العامة للسلوك.

أي أن الواقع العربي يعيش حالة من التفاعلات الفاقدة للوزن والإيقاع، والمزدحمة بالشذوذ التعبيري، وفقا لإنحراف قدرات التعبير عن الأفكار والمشاعر والعواطف بآليات مستوردة، لا تتوافق وحقيقة الذات المنتظمة والمنسجمة مع إيقاعات الكون والوجود بأسرها.

ومن هنا فأن سيادة الشعر المضطرب أو الحر أو المنفلت، من العوامل التي أسهمت بقوة في صناعة السلوك المتوافق معه، وبفقدان دور الشعر العمودي في الحياة العربية، صار السلوك كما هو عليه، فأورد العرب الويلات المتفاقمة والأزمات المتعاظمة، ولن يهدأ للعرب بال ومستقر إلا بالعودة إلى الشعر العمودي، وتعزيز دوره في ثقافتهم ووعيهم ونفوسهم وسلوكهم، ذلك أن الشعر الحر قد حرَم العرب من أكبر معين ثقافي ومعرفي في تأريخهم، فأحرق ديوانهم، ومزق كيانهم، وأطاح بعروبتهم.

كما أن تعزيز قيمة اللغة العربية وضرورتها في صناعة الحياة الأفضل، هو الأعظم ضرورة وقدرة على إعادة الروح العربية، وتنظيم العقل العربي وتأهيله للمعاصرة والإبداع الأصيل.

فلنبتعد عن إضطراب الأفكار التي أشاعها الشعر الحر، ونعود إلى عمود الشعر لتنظيم تفكيرنا وتهذيب سلوكنا، فالشعر العمودي نشاط تربوي وأخلاقي وثقافي ومعرفي، يغذينا بسلاف الروعة والجمال والإنسجام مع أنفسنا والآحرين من حولنا!!

فهل أدركنا أهمية الشعر العمودي وتأثيره على سلوكنا؟!!

فأدمغتنا أما تُبرمج بإنتظام وإنسجام أو بتبعثر وإختصام!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

 

في المثقف اليوم