أقلام حرة

الأفكار والحواس!!

الأفكار طاقات فاعلة في الأدمغة، تسهم في تحديد مسارات المدارك ومناهج الرؤى وآليات التفاعلات، ولا بد لها لكي تنجز ذلك أن تكون ذات تأثيرات مباشرة على الحواس.

ومن المعروف أن الذين يستخدمون الأدوية المهلوسة يرون الأصوات ويسمعون الألوان، أي أن هذه الأدوية تغير طبيعة أحاسيسهم وتجعل ما يُرى يُسمع وما يُسمع يُرى، بمعنى أن الدواء يمكنه أن يغير طبائع الإحساس.

وهذا يمكن أخذه إلى القول بأن الأفكار تغيّر طبائع الإحساس البشري والخلقي.

فلكل فكرة قدراتها ومناهجها وسلوكياتها ومشاريعها التي تسعى لإنجازها، وتوفير الأسباب الممكنة والمساهمة في تحقيقها.

أي أن الأفكار لديها قدرات صب المخلوق الذي إمتلكته في قوالبها، ويمكنها أن تحجب عنه ما يروق لها وتسمح له بوعي ما تريده.

وتعتمد قدرات المخلوق في الوعي والإدراك على سلطة الفكرة ومدى تملكها لمصيره وآليات تفاعلاته مع محيطه الذي يتحرك فيه.

وكأن المخلوق وخصوصا البشري لا يرى ما حوله، بل يرى ما تريده الفكرة المستحوذة عليه أن يرى ويسمع ويلمس ويشم ويتذوق.

فالفكرة تؤثر بقوة على حواس المخلوقات وتستخدمها كما تريد وتسخرها لصالحها.

فكيف تتفاعل الأفكار مع الحواس؟

فالبشر لا يرى إلا ما تمليه عليه الفكرة، لأنها تبحث عما يعززها ويرسخها ويزيدها قوة وتسلطا وطغيانا على الشحص الذي تواجدت فيه، أي أنها - الفكرة - ذات قدرات إنحباسية أو قيدية، بمعنى أنها تقيّد صاحبها وتمتلك ما فيه من الأدوات والآلات الحسية والمعرفية، حتى ليتحول إلى عبد مطيع ومنفذ لإرادتها أيا كان نوعها.

والبشر بطبيعته مخلوق مُغفّل، بسبب ما فيه من الأفكار المهيمنة المتمترسة، وكأنه خندق من خنادقها، والغفلة بمعناها الجوهري أن البشر قد تحوّط بما تمليه عليه الفكرة وإنعزل في كيانها، فتحوّل إلى حالة متقوقعة ومحجوبة داخل ترس الفكرة الذي يزداد سمكا عليه وقبضا على وجوده.

فالفكرة الفاعلة في البشر تحدد تفاعلاته مع ذاته ومحيطه، ويظهر ذلك جليا في المرضى، فعندما تستحوذ فكرة ما على أحدهم فأنه يرى الأشياء من حوله وفقا لما تحققة الفكرة فيه، ففكرة الشك الشديد تجعل المُبتلى بها يرى ويسمع ويفهم ويشم ويتذوق ويتلمس كل شيئ على أنه غير ما هو عليه.

وهذا ينطبق على ذوي الأفكار المهيمنة على رؤوسهم، والمانعة لأي منفذ لإستقبال ما يناهضها أو يزعزعها، لأن الفكرة ذات طاقات إقفالية وإغلاقية، أي أنها تقفل الرؤوس وتغلق منافذها ولا تسمح بالضوء والهواء أن يتسللا إلى أقبيتها.

فالذي تستحوذ عليه فكرة ما أيا كان نوعها ينصفد بها، ولن يتخلص من أسرها إلا بالموت، وبعض الأفكار تسعى لقتل أصحابها ومحقهم وهذا هو مشروعها وهدفها، والكثير من القتل يكون وفقا لأوامر الأفكار المتحكمة بحواس البشر القاتل، التي تجعل الضحية تبدو وكأنها حالة أخرى لا تستحق الحياة، أو أنها عدو الحياة وغير ذلك من التوصيفات التي تحتم القضاء عليها.

وفي واقع منهج الفكرة القتّالة أنها بدفعها لعبدها لقتل غيره، إنما تريد قتله والإنتقام منه، فتجد القاتل في مأزق مروع بعد أن نفذ جريمته، التي لا يجد مسوغا لها إلا أنه وجد نفسه مذعنا لصوت القتل الذي إنطلق في دنياه، ولا يدري ما هو مصدره، لكن الفكرة سوغته له وأجبرته على القيام به وزودته بطاقات العواطف الكفيلة بدفعه للتنفيذ.

ولهذا فأن الإقتراب الصحيح لمواجهة الويلات الأرضية والتداعيات المروعة، أن يلجأ النابهون إلى إعادة صياغة المفاهيم، وتحقيق أعلى درحات اليقظة من الأفكار التي تفترس البشر وتحيلهم إلى أدوات شرور ووسائل ثبور.

فالبشر عبدٌ لأفكاره، ومملوك بها، ومأسورٌ بإرادتها وما تمليه من الرؤى والتصورات والتفاعلات، التي تسوّغها وتدفعه إليها بطاقات إنفعالية ذات أجيج صاخب.

وما يدور في أروقة الدنيا المعتلجة بالتداعيات والنواكب والويلات، إنما من إنتاج الأفكار المعشعشة في الرؤوس والمُصنِّعة للنفوس، والمعززة لأمّارت المساوئ والشرور في دنيا البشر المأسور.

إن تغيير المفاهيم من أهم الخطوات التي يمكنها أن تحقق السلام والأمان، وذلك بإبداع أنواع من الأفكار وليس نوعا واحدا، وبتواجد أنواع عديدة من الأفكار يمكن تحقيق التوازن ومنع طغيان فكرة، وإستبدادها وإستحواذها على الشخص وإمتلاكه وتجريده من ذاته وجوهره.

وبهذا التنوع الفكري يمكن إبادة الجراثيم الفكرية وفايروسات الخراب والدمار الفاعلة في الرؤوس البشرية، التي حققت مسيرات ويلات ووعيد على مرّ العصور والأزمان.

وعليه فأن المطلوب من المفكرين والعلماء والمجتهدين في ميادين الثقافة والنفس والسلوك، النظر الجاد المستشرف للوصول إلى مبتدءاتٍ ذات قيمة حضارية معاصرة، تدحض ما هو سائد وفاعل في العقول والنفوس، والذي تسبب بدفع الأجيال تلو الأجيال إلى مهاوي سقر.

ويبدو أن على عاتق المفكرين والمهتمين بالعلوم النفسية خصوصا تقع مسؤولية التنوير الفكري والسلوكي، لتحقيق الوعي التفاعلي المعتصم بثوابت إقتدارية تعزز التواصل الإيجابي، والإنسباك في صيرورة إنسانية تؤكد جوهر ما تكنزه الأجيال المتوافدة إلى نهر الحياة، الذي عليه أن يكون متجددا وفياضا بأسباب القوة والأمل والرجاء والعطاء الجميل.

فلنغير أفكارنا لكي يتغير العالم من حولنا!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم