أقلام حرة

ظاهرة مستر "جاردنر": ادعاء المعرفة والتضليل والتنظير وتزييف الحقائق!

منذ سنوات عرض فيلم أمريكي كوميدي لافت بعنوان "مستر جاردنر" او "التواجد هناك"، وتتلخص قصته الغريبة بسرد حياة "مستر جاردنر" اي الحدائقي البسيط السابق الذي كان يعمل بمنزل احد الأثرياء، فبعد أن يغادر المنزل الذي قضى فيه جل حياته وهو يعمل باخلاص بعد وفاة صاحب المنزل، وعدم رغبة الورثة الطامعين في الاحتفاظ به...

 

يقوده حظه الجيد الى ان ينتقل للاقامة في منزل ثري آخر متنفذ بعد حادثة سير طفيفة، حيث تشفق عليه زوجة الثري الجميلة والتي تشعر بالملل، كما يعجب به صاحب المنزل السياسي المريض المتقاعد نظرا لما يتمتع به من كاريزما "كلامية" وبراءة طبيعية و"مواهب فلسفية خلاقة"! وينتهي الأمر بأن يصبح وريثا له بعد وفاته، بعد أن ينال اعجاب وحب زوجة الثري أيضا، ويكاد يصبح مرشحا محتملا للرئاسة الأمريكية، بعد أن يجترح بنهاية الفيلم معجزة المشي فوق الماء على بحيرة! وتتلخص المفارقة الكوميدية في هذا الشريط السينمائي اللافت (1979) بأن مستر جاردنر عامل الحديقة البسيط يتحدث ببلاهة وسذاجة دوماعن جدوى الزراعة وتقليم الأشجار والسقي، بينما يصر الآخرون بعناد على أن يفهموا أنه يتحدث مجازا عن الحياة والفلسفة والسياسة، هكذا يسقطون عليه ثوب الفهم والعمق والحكمة وهو أبعد ما يكون عن ذلك... وحتى صمته البليد وايماءته الغبية يفهم منها أنها تخفي معارف لغوية متعددة الى ان يبالغ أحد خبراء اللغات فيدعي أن "مستر جاردنر" يعرف خمس لغات على الأقل! بينما هو في حقيقة الأمر عاجز عن استيعاب لغته الانجليزية  ويكاد يكون اميا! وحتى خبرات"جاردنر" الحياتية فهي قاصرة وتكاد لا تتعدى معرفته للامور التي يشاهدها على جهازالتلفزة، وهي هوايته الوحيدة بعد انتهاء عمله!

ان الذي دعاني للحديث عن شريط "مسترجاردنر" هو ما اشاهده في حياتنا العربية البائسة من فوضى وانتشار وتكريس واضح لهذه الظاهرة اولا لغرابتها ثم لتوافقها مع المثل الشعبي الدارج "شر البلية ما يضحك"! فنحن نلاحظ تصاعدا بيانيا في أدعياء الخبرة وعدد المتظاهرين بالفهم في كافة مناحي حياتنا بلا استثناء، حتى نكاد جميعا نتحول لخبراء أفذاذ، وقد تغولت هذه الظاهرة مع بدء الربيع العربي الخائب وانتشار ظاهرة "التحليل الاستراتيجي" الذي يهدف لتضليل مشاهدي الفضائيات وقراء الصحف وتوجيه أفكارهم، حيث يبدو الحماس مرتبطا بسخاء "الدفع المالي" السخي من مؤسسات وجهات موجهة ماكرة! ..فمستر جاردنر "الخبيث هنا" مختبىء داخل شخوصنا ومستعد دوما للظهور والتنظير والتضليل والثرثرة... فهوالذي يقودنا للتحدث باستمرار عن أشياء ربما لا نستوعبها تماما، وهوالذي يدفعنا للادعاء بالمعرفة  بمجالات بعيدة عن ادراكنا، انه وراء اندفاعنا المجنون لاحراز جوائز عن اعمال ليست أصيلة او ربما "مسروقة"! وهو ربما وراء طغيان الرغبة بتبوء المناصب الرفيعة بلا كفاءات وقدرات موازية، ولا شك ان "مستر جاردنر" العربي اكثر خبثا من النسخة الأجنبية  فهو يلهث وراء الشهادات والجوائز والمناصب بلا كلل اوملل مع القليل من الجهد والاتقان، ومن خبرتي أعرف مديرا عاما نال منصبه بفضل قدراته على المجاملة والفساد المقنع "والواسطة والمحسوبية"، بل نجح باستنفار عدد كبير من موظفي مؤسسته وغيرهم ليكتبوا له رسالة الدكتوراة، التي منحت له من جامعة بريطانية مرموقة!

 

مهند النابلسي

..................

الفيلم هو تحفة سينمائية من اخراج هال أشبي وتنافس بالدور الرئيس الراحل بيتر سيلرز على الاوسكار ولكنه لم ينله، كما أبدعت شيرلي ماكلين بدور زوجة الثري ميلفين دوغلاس، وبقيت مشاهد المشي فوق الماء غامضة وفريدة (بنهاية الشريط)، وعلق بيتر سيلرز على تقمصه العبقري للدور قائلا: عندما لا اتقمص شخصية ما أكون لا شيء!   

في المثقف اليوم