أقلام حرة

البُخساء!!

في القرآن الكريم تكررت عبارة "ولا تبخسوا الناس أشياءهم"، لِما في ذلك من ظلم وإجحاف وإضرار بالعلاقات البشرية وآثار إجتماعية سيئة.

وقد كتبتُ عددا من المقالات بخصوص التفاعل السلبي ما بين العارفين العرب، وعدم قدرتهم على بناء الآليات الكفيلة بصناعة منطلقات حضارية جامعة مانعة تؤهل الأجيال للتفاعل الإيجابي والصيرورة المُثلى.

وكلما عدت إلى الموضوع يبرز أمامي مصطلح " البُخساء" أي الذين يبخسون أشياءهم!!

فالأمة قد تم ترويضها وتأهيلها لكي تبخس كل ما فيها!!

ليس هذا من وحي نظرية المؤامرة، وإنما أرى أن المجتمعات والدول منذ الأزل تتآمر على بعضها البعض، وتنتهز الفرص للإستئثار بما عند غيرها، أي أن ما نسميه مؤامرة هو سلوك تصارعي متواصل مع المجتمعات البشرية، ولا يجوز لنا أن نعتبره حالة شاذة أو غريبة، وإنما هو الطبيعي والقانون وغيره الشاذ والغريب.

فما يجري في الأرض عبارة عن تآمرات متنوعة تهدف لتحقيق مصالح القوى المتصارعة على أرض  تدور.

والعرب من الأمم الفريدة التي تتوهم بحياة خالية من التآمر، وسلوكهم ميّال للتآمر على الذات والموضوع، وذلك بالتعاون مع الذين يسعون لإفتراس الأمة وتدميرها والإستئثار بثرواتها النفطية والبشرية والحضارية، ولا يمكن لوم أي مُفترس يجد فريسة مستعدة لأن تكون وليمته فينقض عليها.

ومن أهم أساليب الإفتراس هو "الإبخاس"، فلكي أأخذ منك ما عندك بأزهد الأثمان يتعين علي أن أجعله بخسا، أي بلا قيمة في نظرك، بل وربما أتمكن من جعلك تنفر منه وتكرهه، وتحسبه عدوك فتتوسل إلي أن أخلصك منه.

وهذا يلخص ما يجري ويتحقق في ربوع أمةٍ أصيبت بعاهة " الإبخاس"!!

ذات مرة إشتريت سيارة وقد جعلها البائع في نظري من أحسن وأجمل وأفخر السيارات، ومضى يرغبني فيها ويُجملها ويحببها إلى نفسي بأساليبه التي تدرب عليها.

وبعد إسبوعين عدت إليه أرغب بتبديلها بموديل جديد وأعطيه الفرق، فوجدته يقدم لي صورة سلبية وقبيحة عن السيارة التي إشتريتها منه، وكأنه يريدني أن أعيدها إليه بنصف سعرها، فقلت له: قد قلت لي غير ما تقوله الآن عندما إشتريت السيارة منك!!

فقال: ذاك قبل إسبوعين!!

وفي سلوكه تحبيب وتبخيس وفقا للمصلحة المادية البحتة وآليات الإفتراس، بمعنى أخذ المال من جيبك.

ووفقا لذلك تتفاعل وسائل الإعلام فهي تُحَبِب وتُبّخِس للوصول إلى الهدف المطلوب، والذين لا يدركون يتدحرجون بقوة العواصف الإعلامية والخطابية والتثويرية المؤججة للمشاعر، والمعبرة عن تسويغ المآثم والخطايا والجرائم، فلكل خطيئة صوت ينعق بالتبرير والتسويغ المشين وبإسم الدين.

وعندما نعود إلى العلماء والمفكرين والفلاسفة وأصحاب الرأي والقدرة التنويرية، نجد أن دورهم يتعارض مع آليات الإفتراس، فوجودهم يعني بناء المَصدات الفكرية وتحقيق المناعة الثقافية الكفيلة بالوقاية من الإصابة بداء " الإبخاس"، ولهذا لا بد من تأهيل المجتمعات المُستهدفة لإبخاسهم أو إنكارهم والتقليل من قيمتهم ودورهم بل والعدوان عليهم وطردهم من مجتمعاتهم.

ولو تأملنا المسيرة العربية الحضارية، لرأينا " برغم ما يروّج ويُشاع"، أن المفكرين والعلماء العرب والشعراء الألبّاء، قد نالوا الحظوة والتقدير الرسمي والشعبي، وكان لهم الدور المؤثر في الحياة العامة والسياسة، وأكثرهم من الذين يستنير بآرائهم الحاكم أو السلطان، بل وكان للسلاطين مجالس مع العلماء والمفكرين وذوي المعارف المتنوعة، وفي تلك المجالس كانت تتلاقح وتنضج الأفكار وتساهم في إتخاذ القرارات المثقفة.

وفي أيامنا المعاصرة تحظى الأمة بأولياء أمور شؤونها الذين لا يقرؤون، ولا يتفاعلون مع المفكرين والعلماء، وإنما ينفرون منهم ويساهمون بإبخاسهم - إلا القليل منهم -، فلو أجّل أولياء أمور الأنظمة العربية العلم والعلماء، لتعلم الناس كيف يمارسون ذلك ويقرّون بأهمية العلم والعلماء والفكر والمفكرين، لكن ذلك سيتسبب بخسائر مادية ومعنوية للآخرين المتاجرين بدين، وتلك محنة عربية قاهرة، لأن التبعية والإذعانية من العاهات المزمنة المستشرية في الواقع العربي، ويعززها تجار الدين الذين يُسْعَدون بالجهلاء ويحتكرون المعرفة لهم وحسب، وعلى الجهل أن يدوم لكي يدوم المقسوم.

فالمجتمع المُتعلم يعز العلماء، والمجتمع الجاهل، الذي يتم تعطيل العقل فيه وإنكاره، والتأكيد على الإقرار المسبق، كما يحلو للُممتهنين المُتحكمين بمصير الآخرين، يتمرغ بعباءة متاجر بدين وينفر من التفكير والمفكرين، تلك حقائق صعبة وخطيرة ومواجهتها تكلف ما لا يخطر على بال!!

والمشكلة التي يصعب تفسيرها أن العلماء والمفكرين العرب يتناكرون ويتنافرون ويتباخسون، فلا تجد مَن يتباهى بغيره ويبتهج أنه بين جمهرة عقول وقامات شامخة، فكل واحد يرى نفسه جبلا ومن حوله تلال، ولا يريد أن يكن جبلا متشامخا بين الجبال.

لست قاسيا في هذا التوصيف وإنما أرسم ما أشاهده في واقع عشته وتواصلت معه على مستويات متنوعة، فوجدت نيوبَ الأسد مُكشرةً، وقوانين الغاب مُظقرةً، وسطوة الأنا متوّجةً، فإحترت في كينونة لا تبصر بعيون، بل عمياء صماء بكماء، تعصف في أرجائها أمّارةُ ألف سوءٍ وسوء!!

فعدم التفاخر ببعضنا قانون فاعل ومُحكم يرسم سلوكنا، وبخسنا لبعضنا هو السائد، وفينا دوافع للنسف والإمحاق، وتسري في أعماقنا نوازع "وما إجتمعت بأذوادٍ فحول"، وعنوان سلوكنا أن نبخس ذاتنا وموضوعنا، وكأننا لا نعرف أن نتألق معا،  وما تعلمنا آليات تلاقح الأفكار وبناء العمارات الحضارية المتنامية ،  التي تمنح الأجيال فرصا للإنطلاق والعلاء والنماء الأرحب.

والخلاصة أن العلماء والمفكرين والمثقفين هم كالمجتمع العربي ضحايا ومُفترَسين، ومُستهدَفين ومُحاطين بما يدفعهم للإبخاس والتفاعل السلبي، والإبتعاد عن التعشق الإبداعي والتفكير الإنساني الجامع، وإنما على كل واحد منهم أن يعيش في صومعته، ويكون من المتصوفين الصامتين المنقطعين عن الواقع الذي فيه، لكي يبقى المجتمع يتنفس هواءً فاسدا ويُصاب بالأضرار والإنحرافات والضلالات، التي تجعله صيدا سهلا وفريسة ذات طعم لذيذ.

وما ألذّ الفرائس العربية على موائد الطامعين، الذين يشربون أنخاب "سعيد مَن إكتفى بغيره"، والعرب يتدحرجون إلى هاوية، وما أدراك ما هي!!

 

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم