أقلام حرة

الاديب والفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي

diaa nafieولد ميرشكوفسكي (ويكتبون اسمه ميرجكوفسكي او ميرزكوفسكي) في روسيا القيصرية عام 1865، وهاجر من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 مثل معظم المثقفين الروس آنذاك، وتوفي في فرنسا عام 1941، وهو الكاتب الروسي الوحيد الذي تم ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب  عشر مرّآت ابتداء من عام 1914 فصاعدا، وكان اسمه رسميّا ضمن عدة مرشحين  روس عام 1933 مع غوركي وبونين وكوبرين عندما فاز بالجائزة بونين كما هو معروف (انظر مقالتنا بعنوان – بونين يتسّلم جائزة نوبل).

ميرشكوفسكي – كاتب وشاعر وفيلسوف ومؤرخ ومترجم، ويعد في تاريخ الادب الروسي مؤسسا للرمزية وواضع اسس جنس جديد في مسيرة الادب الروسي وهو – الرواية التاريخية الفلسفية،وباختصار، فانه أحد الاسماء البارزة في عالم الادب والفلسفة الروسية في القرن العشرين، ومن الطريف ان نذكر هنا، ان والده استطاع  - عبر معارفه – ان يقدّم ابنه الى الكاتب الروسي الكبير دستويفسكي عام 1880 ليقرأ امامه احدى قصائده (كان عمره 15 سنة ليس الا)، وقد استمع دستويفسكي له ثم قال – ( ضعيف ..ضعيف.. لا يصلح لأي شئ) وأضاف – (ان الكتابة الجيدة تحتاج الى المعاناة )، فقال الاب – (عدم الكتابة عندئذ أفضل من المعاناة)، ولم تتحقق لا نبوءة دستويفسكي ولا قول والده، اذ اصبح ميرشكوفسكي اديبا كبيرا، وعانى الكثير في مسيرة حياته الفكرية، خصوصا في نهايتها، اذ اضطر رفاقه من الادباء الروس اللاجئين في باريس ان يجمعوا له تبرعات كي يتمكن من تدبير امور حياته وسكنه مع زوجته هناك.

لا يمكن رسم صورة قلمية متكاملة لكاتب في حجم ميرشكوفسكي واهميته، ولهذا فاننا سنتوقف في مقالتنا هذه عند بعض النقاط البارزة في مسيرة حياته الابداعية ليس الا. النقطة الاولى، التي نتناولها في هذا المجال هي كتابه بعنوان – (تولستوي ودستويفسكي)، الذي بدأ بنشره في مجلة (عالم الفنون) الروسية عام 1900، ثم نشره في كتاب عام 1902 . انه كتاب فلسفي مهم في تاريخ الفكر والادب الروسي، ولا زال يمتلك قيمته التاريخية لحد الان، اذ انه تناول الجانب الفلسفي عند اديبين كبيرين طرحا فلسفتهما الدينية المعمقة عبر نتاجاتهم الادبية، وهي ظاهرة جديدة كليّا في دنيا الادب الروسي والعالمي ايضا. لقد ظهر هذا الكتاب بالذات عندما انتقدت الكنيسة الارثذوكسية الروسية تولستوي وهاجمته هجوما عنيفا نتيجة موقفه من الكنيسة، وهو موقف معروف أشار فيه – من جملة ما أشار - الى ان العلاقة بين الانسان والرب هي علاقة مباشرة ولا تحتاج الى وسيط بينهما،اي الى رجال الدين (ما أعظم هذه الفكرة وما أحوجنا اليها لحد الان!)، وغيرها من الافكار الفلسفية الكبرى . لقد اعلن ميرشكوفسكي انه ليس ضد تولستوي بل انه حتّى يتعاطف معه، وقد تفهّم تولستوي ذلك الموقف ودعاه مع زوجته الى ضيعته في ياسنايا بوليانا للتعبير عن امتنانه له، الا ان زوجة ميرشكوفسكي كتبت حول هذا اللقاء بعد فترة، ان زوجها لم يتقبّل طوال حياته ( دين تولستوي!). ومن المعروف ان تولستوي حاول ان يمزج (ان صحّ هذا التعبير المبسّط) خلاصات أديان وفلسفات عديدة، ولكنه لم يستطع ان يخلق سوى مفهوم ( التولستوية) (انظر مقالتينا بعنوان – تولستوي والتولستويون  وبعنوان - غاندي وتولستوي). النقطة الثانية، التي تستحق ان نتوقف عندها ايضا هي كتابه بعنوان – (المسيح وضد المسيح)، والذي بدأ باصداره في نهاية القرن التاسع عشر وانتهى منه في بداية القرن العشرين. هذا الكتاب هو رواية ثلاثية تاريخية جسّدت كل افكار ميرشكوفسكي، وهو كلمة جديدة في مسيرة الادب الروسي، ويشير نقاد الادب الى انه قد وضع في هذا الكتاب اسس الرواية الفلسفية التاريخية في الادب الروسي . يتناول الكتاب موضوعة الصراع الدائم بين الخير والشر عبر التاريخ الانساني، وقد طرح ميرشكوفسكي هذا الموضوع بشكل حاد وصارم بعد هجرته من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 واستقراره في باريس، مؤكدا ان البلشفية تجسّد قوى الشر المضادة للفكر المسيحي  والديني بشكل عام، وان على قوى الخير ان تتوحّد ضدها، وقد استغّل ميرشكوفسكي دعوة موسوليني له لتأليف كتاب عن دانتي في ثلاثينات القرن العشرين وطرح هذا الموقف عليه، وتحدث معه حول ذلك بشكل صريح وعلني. ان الموقف السياسي البحت لميرشكوفسكي يتطلب مقالة خاصة بلا شك، اذ ان الكاتب قد انحدر اكثر مما يسمح به الصراع الفكري بين القوى السياسية الروسية المتصارعة آنذاك، ووصل الى حد التعاون مع اعداء الوطن بشكل مباشر، ونأمل العودة الى هذا الموضوع المهم والخطير، والذي لا زال يتكرر في عصرنا الحاضر مع الاسف بصيغ مختلفة.

ميرشكوفسكي باختصار- شخصية كبيرة ومتميّزة جدا في تاريخ الفكر والفلسفة  والادب الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويستحق الدراسة العميقة بالنسبة لنا – نحن العرب – ويتطلب التأمّل الفكري الجاد واستنباط الدروس في مسيرة الادب ودوره في الحياة الثقافية والسياسية.

 

أ.د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم