أقلام حرة

على هامش مناسبة ابن عمي.. موقفان بسيطان لكن للدهشة معايير أخرى..

bakir sabatin

ثمة مواقف صغيرة قد تمر من أمامك فلا تكترث بها؛ ولكن المناسبات الجميلة تدعوك أحياناً للتريث والوقوف أمامه طويلاً حين تجمعك بها! لتكتشف بأنه ربما يكون بين حبيبات الغبار المتناثرة بين أقدامنا ونحن نودع الأصدقاء، بضعة أحلام مسكونة في جوف حبيبات طلع تنتظر من يلقمها مباسم الزهور لتورق بأجمل المواقف العابرة، من هنا تنبع أهميتها.. فما بالك حينما يتعلق الأمر بكاتب يحترم قلمه!! هذا ما حدث معي في مناسبة خطبة ابن عمي الأستاذ نايف الحجر في بيادر وادي السير- عمان.. كان رفيقي في الرحلة إلى هناك شقيقي م عمر (أبو نضال).. وقد طافت بنا المواضيع ونحن نتحايل على الوقت؛ حتى صرنا في القاعة التي اكتظت بالضيوف.. إلى هنا والمشهد قد يتكرر في كل مناسبة، إلى أن وجدت لي متسعاً بجوار الصديق سعيد هديب ومجموعة من أعضاء نادي وادي السير الرياضي والثقافي الذي يترأسه، فجلست محفوفاً بالترحاب.. وتجاذبت مع المجموعة أطراف الأحاديث،.وبعد أن حدثني هديب عن إنجازات النادي والتي كان آخرها في ذات القاعة ما يسمى بنشاط اليوم الوظيفي، تنفس الصعداء.. وتحين فرصة سكون القاعة أثناء تبادل الوجهاء طلب الفتاة، وقبل أن يبرد فنجان القهوة على الطاولة أمامهم؛ ربت هديب على كتفي بابتهاج أثلج صدري، وهو يزف لي خبراً قد يعني كاتباً مثلي:"لقد أمنا في لقاء اليوم أربعين وظيفة بسيطة للعاطلين عن العمل في منطقة وادي السير". لقد شد انتباهي هذا الخبر ممعناً النظر في هذا الرجل الذي بدا لي في قمة العطاء وهو يصرف من وقته لخدمة مجتمعه المحلي، فأثنيت عليه، حتى انفرجت أساريره. تخيلت نفسي أحد أولئك الشباب الذين حلت أزمتهم ولو في جانبها الوظيفة. وظلت الأحاديث تتجاذب بيننا حتى فاجئني بشيء يهمني ككاتب يؤمن بالتواصل المفتوح بين النص والجمهور.. قالها بذات النبرة المفعمة بأريج الياسمين الفواح بالطاقة الإيجابية:

" لقد اشتريت قبل مدة وجيزة روايتك: ثلوج منتصف الليل- من قتل خليل الجيباوي".. قلت له: " يا لله!! لقد نبشت ذاكرتي بهذا الخبر السعيد، وروايتي ستكون بين يدين حانيتين وعقل يملأه الوعي".. دهشت بأن رواية صدرت لي عن دار يافا عام 2009 بدعم من وزارة الثقافة (400 صفحة) ما زالت تتفاعل مع القراء الواعين وهي تحمل في طياتها تنبؤاتها عمًا يجري حولنا من كوارث.. وقد كُتِبَتْ بمزاج عمّاني، تحاورت خلاله الشخوص مع ملامح مدينة عمَان بكل تفاصيلها الحياتية والسياسية.. وقد كتب عنها أكبر النقاد العرب وأشادوا بها.. بدئاً بكاتب مقدمتها الأستاذ جعفر العقلي واللبنانية الدكتورة دينا صليبا والعراقي الدكتور نعمان عبد الواحد وغيرهم،  لتتوقف بنا الأحداث عند شخصية خليل الجيباوي ذلك الاقتصادي المطبع الفاسد، الذي قتل آخر المطاف على يد المافيا الروسية حيث نشأ في وسطها، وجاء ليغسل الأموال في عمان. القارئ لن يكتشف ذلك إلا في نهاية الرواية؛ لأنه سيكون حينذاك منشغلاً بفك طلاسم بعض الأحداث المفصلية التي تدور كساقية الأسئلة المدهشة، وهي تُخْرِجُ البراعم لترى النور.. وها هو الحقل يخرج ما ببطن  الراوي: فإبراهيم الصافي الذي قدم من بيروت ليستقر في عمان بعد أن تقادمت عليه التهم السياسية مستفيداً من العفو  الذي شمله، وفي عمان يطلب منه أن ينضم للسلطة الفلسطينية في بواكير تأسيسها؛ لكنه رفض آخر المطاف ذلك لأنه تنبأ بمصيرها الكارثي موحياً بأنها جاءت للتنازل عن الحق الفلسطيني مديناً بموقفه ذاك معاهدة أوسلو.. ثم هناك الفنان ماهر الذي تحرر من كل الظروف التي أجبرته على التنازل عن توقيعه لصالح رجل الأعمال الفاسد والمطبع الجيباوي كي يعبئ النقص في الجانب الثقافي من شخصيته الممسوخة، هذا التحدي اشتعلت في سياقه قصة حب ربطت هذا الفنان العنيد بابنة الجيباوي الذي هزمته في الانتخابات النيابية امرأة أثبتت أنها تتمتع برجولة أكثر من بعض الرجال الخائبين. الصراعات في الرواية جاءت مطابقة لواقعنا في عالم الرياء الذي تحول فيه العدو إلى حليف نستقوي به على بعضنا.. كأن الرواية تقول لك:

 " ما زلنا نقتات على ذات الأسباب التي تتوالد منها الخيبات".

 وقررت منذ عودتي إلى البيت إعادة قراءة الرواية من جديد.

أما الموقف الثاني، فقد جاء من ابن عمي عماد الحجر الذي عاش ردحاً من الزمان في أمريكا، ثم عاد ليستقر منذ فترة طويلة في عمان.. وكونه يحمل الجنسية الأمريكية إلى جانب الأردنية فقد كان بوسعه زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وللتذكير فقد  كان أول من صور ملامح قرية الدوايمة أواخر العقد الأخير من القرن الماضي.. هذا الرجل الذي أحب وطنه جاء يسألني بعد أن صافحني مرحباً كونه من أصحاب المناسبة، وذلك على خلفية آخر مقال كتبته بعنوان:

"ترامب ما بين الناتو العربي والإسلام الأمريكي وخيبة العربان".

 والذي أجملت فيه الحديث عن وجود إسلام أمريكي يهادن الصهاينة ويتحالف معهم، وآخر يطالب بحقوق فلسطين، ويناصر المقاومة، وينبذ المطبعين.. وجاء هذا المقال خلاصة لحوار دار بيني وبين شقيقي أبو نضال في سهرة عائلية في بيته أمس الأول.. وهو من الحوارات التي اعتاد الناس على خوض غمارها كلما ألمّت بأمتنا مصيبة. وعودة إلى ابن عمي الذي فاجأني وهو يسألني حتى خلت نفسي رجلَ دين يُستفتى بمسألة! فماذا سألني هذا الرجل الحرّ الشريف:

"يا ابن العم.. أنا معتاد على زيارة الأهل في فلسطين فهل هذا تطبيع".

 كدت أقبل جبينه احتراماً له.. قلت له أنت أول من صوّر بقايا ملامح قرية الدوايمة في شريط فيديو منذ نكبة فلسطين عام ثمانية وأربعين.. لا يا ابن العم.. الزيارة الممكنة مغفورة ولكن الشركات السياحية الناقلة، وكل من يتعامل مع عدونا اقتصادياً، هو بلا أدنى شك مطبع ويستحق الإدانة.

هكذا تفهم المعادلة على صعيد فلسطيني.. فاللاجئ من حقه زيارة وطنه وتوثيق ما يجري هناك.. على أن لا يتعامل اقتصادياً معه.. مع أنه من الأولى عدم دخول سفارة الكيان المحتل. فكل الخيبة للمطبعين الذين سيأخذهم التاريخ إلى مزابله..

وألف مبروك لصاحب المناسبة الأستاذ نايف الحجر على خطبة ابنه براء.. فأفراحنا تغيظ العدو..

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم