أقلام حرة

بوارق الغياب والحنين

لم يكن الشهيد أبو علي إياد شخصا عاديا، فقد ارتسمت على مساحة  خلايا جسده خارطة فلسطين، وتجذرت في ضميره جموع اللاجئين، وآمن أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للعودة الحرة الكريمة . كان الشهيد عقلية تنظيمية فذة،  وطاقة عمل تصل الليل بالنهار، وجرأة لا تعرف الخوف، لم تمنعه إصابته من المضي في خياراته للنهاية، فالتف حوله كثير من أبناء  فلسطين، وغدا يشكل تيارا فتحاويا مهما، عماده أبناء قلقيلة، وما جاورها من مدن وقرى.  سقط الشهيد عام 1971 في أحراش جرش، بعد أن نفدت ذخيرته، وأطبق عليه الحصار، فمضى يحمل دمه، وظلم ذوي القربى، وليفتح الباب واسعا على صراع  داخلي، وتصفيات دموية، استمرت عقودا طويلة، كان للقوى الإقليمية والدولية فيها دور بارز، ولتشكل فيما بعد،جزءا من نجاحات الثورة وإخفاقاتها.  وبعضا من تاريخها الممهور بالوفاء والخيانة .

مضى المئات من الشهداء، وظل شارع بسمان يخترق عمان القديمة، على الجهة اليمنى تقع سينما بسمان وعمان، وأغلب روادهما من صغار الموظفين والطلبة، وبعض العاطلين عن العمل، وفي الجهة المقابلة من الشارع ثمة زقاق ضيق يرتفع حادا على شكل درج اسمنتي عتيق، في نهايته تقع عيادة الدكتور منيف الرزاز . ومنيف هو الأمين العام السابق للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، لعب دورا بارزا في سلسلة الانقلابات الدموية في سوريا في فترة الستينات والسبعينات من القرن الفائت، وهو والد الروائي مؤنس الرزاز، ووزير التربية الأردني الحالي عمر الرزاز . كان قصير البنية نحيفها، عيناه واسعتان، يتمتع بذكاء حاد، كريم النفس، سخر عيادته لمعالجة الفقراء . أيام المراهقة أصبت بحمى حادة، راجعت الطبيب، وبعد الكشف، وأخذ العلاج، وضعت يدي اليسرى في الجيب الداخلي «للساكة» لاستخراج النقود، ومن عجب أن تعلقت عيناه على يدي بصورة حادة وتركيز شديد، كان الرجل يخشى الاغتيال، ولعل منظر شعري المنسدل على كتفي، ونحفي قد أوحيا له بذلك .  ولمنيف مجموعة من الكتب في الاجتماع والاقتصاد والسياسة . وكتابه «التجربة المرة» غني ومفيد . قرأته، وشدني فيه الرائد سليم الحاطوم، شخصية لمعت فجاة، وانطفأت فجاة، وظلت تحمل سرها مع مقتلها . الرائد سليم حاطوم ظل في ذاكرة الفتى البدوي لغزا مستعصيا، قبل شهر تقريبا، التقيت مع أحد ابناء عائلة الحاطوم، احد الموحدين العرب، أو  ممن نسميهم طائفة الدروز، سألته عنه، تنهد الرجل، ولمعت في عينيه بوارق الغياب والحنين، ثم تحدث عنه بكثير من التجلة والاحترام . هو من جبل العرب، لعب دورا مهما في التاريخ السوري الحديث، ولعله السبب الرئيس في صعود حافظ الأسد إلى سدة الحكم، وقضى معدوما في سجن المزة العسكري . اللافت في الحديث أن سليما أقام في واحة الأزرق الصحراوية عند آل الحاطوم، وفي عمان بين الدوارين السادس والسابع، وقبيل اعتقاله وإعدامه غادر عمان إلى دمشق، حيث كان ما كان .

 وعدني العربي الدرزي بزيارة إلى شيخ جليل من آل الحاطوم، التقى سليم وتعرف إليه، عندها أستطيع أن أكتب  مقالة عن سليم، وسليم وحده .

ومن سليم ابن السويداء إلى عمر الخيام، صاحب الرباعيات المشهورة، والتي ترجمها أحمد رامي وغنتها أم كلثوم في واحدة من أشهر إبداعاتها الفنية، ظلت الرباعيات سرا على مؤرخي الأدب، فقد عبثت بها يد المنتحلين، وكثرة المترجمين، وبقيت موضع أخذ ورد . يقول الخيام في رباعياته:

لبست ثوب العيش لم استشر

وحرت فيه بين شتى الفكر

وسوف انضو الثوب عنى ولم

ادرك لماذا جئت ؟ اين المفر؟

يا من يحار الفهم فى قدرتك

وتطلب النفس حمى طاعتك

اسكرنى الإثم ولكننى

صحوت بالآمال فى رحمتك

إن لم أكن اخلصت فى طاعتك

فإننى أطمع فى رحمتك

وانما يشفع لى اننى قد

عشت لا أشرك في وحدتك

إن تفصل القطرة من بحرها

ففى مداه منتهى أمرها

تقاربت يارب ما بيننا

مسافة البعد على قدرها

ياعالم الأسرار علم اليقين

ياكاشف الضر عن البائسين

ياقابل الأعذار عدنا الى ظلك

فاقبل توبة التائبين

بالله عليكم، كم من الأنسانية نحتاج؟؟ وكم عمرا حتى نفيء إلى عمرنا

 

منصور ضيف الله

 

 

في المثقف اليوم