أقلام حرة

فعل التحديث بين منظورين

ali mohamadalyousifالقيم الهجينة في لبوسها الحداثة الفوقية ثقافيا ادبيا فنيا لا تتخلق ولم تنبثق عن الواقع العربي كضرورة تاريخية – حضارية في استحضار فعل تحديثي يعالج او يسهم في ازالة التخلف من المجتمع العربي ... ونحن هنا نقف على نباهة وحذر شديدين في ان لا نغفل الفارق الكبير بن خصوصية الفن والإنتاجية الإبداعية - الثقافية بكافة اشكالها كتعبير جمالي – أنساني من جهة... وبين خصوصية الفكر غير المؤطر فنيا في سمته (المباشرة) – كالأيديولوجيا والإعلام المقروء (الصحافي) –والمرئي دونما حاجته الى توصيل ما يريد الى المتلقي في (شكل فني) وجمالية تعبيرية تؤطر المضمون ، وهو ما يقتل الفنون والاداب جميعها اذا ما اتسمت واعتمدت الخطابية والسرد النثري المؤدلج وتخلت عن شكلها الجمالي الفني ... المباشرة عدو الابداع الفني والجمالي والادبي الاول.

مرجعية طرح ان النقص والعيب والقصور يكمن في تطبيقات الايديولوجيا السياسية المسخ للافكار تملي على الفعالية الابداعية الجمالية امام الاصطدام بواقع يأس المعالجة (الوهمي!) امام الفنان اللجوء الى الامساك بانواع من التعويضات الفارغة الغير مجدية والتي لا معنى لها في غير اطار مظهريتها الفنية الزائفة.

تمسك الفنان او الاديب في سعيه تحقيق (فعل) تحديثي باطر ثقافية ابداعية ادبية وفنية معزولة تماما عن مهمة تاصيل الهوية وتأكيد فاعلية المتلقي وخصائص المحلية والمحيط والمجتمع، واقامة مرتكزات مادية صلبة لها يكون بذلك لا ينتسب الى (العربية) الا في شكل اللغة التعبيرية ... واكتفاء المبدع الفنان باحلال هذا الفعل الجمالي محل صيغة الفعل التعويضي الذي تضطلع تطبيقه برامج  سياسية ربما تكون صحيحة وتخدم طموحات شعبية وفي وسائل السرد المعرفي والمرئي الاعلامي السليم في مختلف الاختصاصات والفعاليات الديمقراطية العصرية الذي يتوخى تبديل كل (بنى) المجتمع واهتراءاته لكنه يؤشر قصور اسهامات الادب والفنون فيه. والفعل الجمالي التعبيري الفني او الادبي النخبوي فوقيا وان كان ضرورة في المقاييس والمعايير الجمالية النقدية الابداعية الا في (سيسيولوجيته) انه فعل يعالج قشرة الاختلالات، وسطحية التخلفات الاجتماعية بمعنى أخر انه فعل لا يتعامد رأسيا ولا يحتدم بمشكلات المجتمع الجوهرية في سعي عميق للقيام بدور تاريخي.

فعل الإنتاجية الإبداعية غير الأصيل لا يتعدى تأثيره في الأخر – النحن اكثر من رد فعل انفعالي يتخذ من الاسلوب والشكل الجمالي التعبيري ممارسة سياحية تجاه هموم المواطن وتحفيزه الى الاستثارة وقدرة المجاوزة فالفعل الجمالي التعبيري هنا هو فعل تخديري ناقص ثقافيا، اجتماعيا، وتغريبيا للمتلقي لا يؤدي الى نتيجة يعتد بها في خدمة اهداف مجتمعية ونصفه بالتخديري لانه يستهلك الذات الثقافية والحضارية ان تكون مطمحا قابلا للتحقق في التطبيق العملاني في نواحي الحياة غير الثقافية ويسعى الى ارجاء ان يصبح للهوية الحضارية المنشودة اسساً مادية تقوم عليها مستقبلا وانما يكفينا الاستهلاك الحضاري للغير الاجنبي كي تغدو التبعية الأجنبية بمرور الوقت الطريق الوحيد ان لم يكن الاختيار الوحيد لوجودنا المعاصر لعلاقتنا بالآخرين. وانتاج فعالية جمالية فنية شوهاء مزيفة انما هي انتاجية (فعل) تحديثي شكلي فقط ناقص حضاريا – ثقافيا (سيسيولوجيا تمدينياً) كونه يخرج الانسان العربي عن دائرة الهوية الحضارية الاصيلة في محليتها في مجتمع متكامل يطمح تحديث وعصرنة كل جوانب حياته حتى بوصفه وازدرائه الواقع العربي ولغته العنينة !!؟ العاجزة عن التخصيب الطبيعي المطلوب. بالامعان في او / وراء هذا التهميش الحضاري غير الجاد على صعيد الحفاظ التعويضي بفعل الانتاجية الابداعية والجمالية الشعرية المهجنة التي تروم هي لوحدها تهديم قناعات فكرية ثقافية قديمة موروثة في انجازها- ان استطاعت- مواكبة تطورات العصر الثقافية الفكرية الجمالية فبامكنها على افضل الوجوه تشكيل تعويض وهم نفساني لمجتمع عربي او اكثر لسد (عقدة) النقص التي  يستشعرها المثقف في داخله وينوء بحملها كما هو حال المجتمع العربي في المرحلة الراهنة فهو لا يمتلك أدوات مجاوزة واقعه التاريخي – الحضاري المتخلفين ورفضهما وبالتالي لا يعيش عصره . شجعت الوقوع في هذا (الخطأ) قناعة تبدو صحيحة حاضراً بحكم رداءة مناحي اوضاع المجتمعات العربية في مجملها يجعل التذكير في امكانية صحة وقابلية تحديث اخر في الانتاجية الابداعية الشعرية والفنية عموما ممكن ان تتم بمعزل عن أي نوع من الفعالية التحديثية التي يمكن ان تضطلع تحقيقها فعالية انتاجية اخرى خاصة على صعيد السياسة ، الاقتصاد، الاجتماع .

ان فعل التهديم وتأسيس مرتكزات تحديث وعصرنة امتلاك انتاجية اخرى متطورة ادبيا وفنيا لن يغير من واقع التخلفات الاجتماعية شيئا اذ ما اعتبر بديلا او تجاوزا لفعل التهديم المطلوب في تغيير انماط واشكال نواحي الحياة العربية الاخرى المتخلفة التي من المفروض ان تقوم بها مؤسسات سياسية اقتصادية تربوية ديمقراطية في نقلة غير استهلاكية بالامكان استيعابها، والفعالية الادبية الجمالية والفنية ليست معفاة من الاسهام في تحقيقها.

ثمة خيار ثان فارغ يمارسه المبدع الذي يستسهل الامور هو تطاوله الوهمي والتعلق الزائف الغير جاد غير الأصيل بقناعة البعض الخاطئة لدى الكثيرين من مثقفينا وفنانينا ان استحضار انتاجية جمالية مهما تكن نواقصها وعيوبها كفيل بسد النقص الثقافي – الفني المتفاوت المغلوب غربيا نسبة الى معطيات الحداثة والتجديد في الادب والفنون الغربية الاجنبية المتقدمة يمثل انجازا كبيرا بحد ذاته على حد فهم متبنيه.

 هذا الاختيار ليس مهما مناقشته لانه باختصار شديد يضع العربة امام الحصان وبذلك يضعنا نحن في مجال دائري مستمر داخل متاهة مغرقة في التقليد والتجريب الفوضويين . مطلوب منا وعلى الدوام اذا ما سرنا مع هذا التيار ان نتحسس فيه على الدوام مواقع اقدامنا وارضية وقوفنا مخافة الانزلاق اكثر في قرارة الهاوية التي ما بعدها صعود.

ثم اذا كان التجريب التغريبي يمثل لدينا اصالة يتوجب اعتمادها لانها سمة عصرية تحكم المجتمع البشري بمجموعه بالقلق والخوف وفقدان الاستقرار ....... الخ.

فان اول ما يتبادر الى الذهن ان استعمال (المجتمع البشري بمجموعه) تعبير غير دقيق علميا واجتماعيا في اضفاء الصفة الاطلاقية الشاملة عليه بهذا المعنى لوجود اختلافات لاحصر لها من اشكال القلق واشكال الخوف وفقدان الاستقرار والضياع والفقر والتخلف والجهل والقمع والاضطهاد وامتهان كرامة الانسان وبيع حقوقه في مزاد المضاربات السياسية بانواعها واشكالها ...بين مجتمع واخر او بين مجموعة مجتمعات وأخرى وهذه المآسي اشبعت تنبيها لها من قبل العشرات من مفكري العرب ودول العالم الثالث... فهذه الاختلافات لا يمكننا اغفالها حتى داخل المجتمعات العربية كلا على حدة وتأشير التفاوت الكبير في مابينها ... فمثلا عند دراستنا مقارنة او ملاحظة قلق وخوف وفقدان استقرار وضياع وتمرد ورفض انسان اوربي مثلا لا رابطة له ولا وجه مقارنة معه من خوف ورعب رجل الشارع العربي البسيط من بطش شرطي الحكومة والنظام... ان لم يكن الباسه تهمة معدة سلفا يقتضيها التحقيق او يحتمها استشراء الفساد الاداري والرشوة !! وبين خوف الرجل الغربي من امكانية خطأ- وسوء استعمال الاسلحة النووية وانتشارها – هنا اقصد خوف الانسان العادي – وليس برمجة الدول النووية لخدمة اهداف سياسية عسكرية لكيفية الهيمنة والاستئثار بها برعب البشرية وتهديد مستقبلها بالفناء، وكذلك خوف وقلق الانسان الغربي من تلوث البيئة وشحة المياه العذبة، وارتفاع درجات حرارة الارض وكوارث طبيعية وامراض مستعصية ...الخ ومثال اخر ايضاً لا تصح المقارنة من عواقب ظاهرة البطالة لدى الاوربي المكفولة بطالته بمساعدة الرعاية الاجتماعية في ان تجد لها مشابهات عندنا من خوف وقلق وقتامة النظرة الى المستقبل لدى صاحب الشهادة العلمية الجامعية من البطالة او البطالة المقنعة حين يعمل سائق تاكسي مثلا، ومتى يكوّن اسرة او يتزوج ...وامثلة اخرى لا حصر لها.

من جانب اخر نحن ننطلق من افتراض التأزم الحضاري الاوربي الامريكي على وفق مقاييس ومعايير فرض خصوصيات ما نتمناه ان يتحقق مستقبلا ونحن عزّل من اية مؤهلات علمية حضارية تنافسية توازيها او تسبقها. .. ورفضنا لازمة الحضارة الغربية لاسباب خاصة بنا ليست كافية لتحقيق رغباتنا من جهة، ومن جهة اخرى فان رفضنا السلبي الاعزل هذا لا يطابق الرفض او القبول من لدن الانسان الاوربي تجاه ازمته الحضارية كونه ينطلق في تازمه الحضاري من معطيات واصول ثقافية واجتماعية واقتصادية تختلف عنا جداً... وهي ايضا معطيات مجتمعية او قيمية او معيارية وطرق واساليب تفكير ترفض او ربما تتقبل ذلك التأزم الحضاري الذي يعيشه الانسان الاوربي تفصيلا ويعرف مسبباته التي يدركها عموماً ان لا تقصير لحكومته في معالجتها... كما انها خارجة عن يدها من الامساك بمسبباتها لذا فهو يتقبل وطأة أزماته المنوعة كنتيجة حتمية لابد من وقوعها وهذا القبول يكون تعويضاً لامتيازات عالية في قيمتها الانسانية في مناحي اخرى لمكونات حضارية غربية متقدمة فالازمة المالية العميقة التي ضربت امريكا والعالم بدايات القرن الحادي والعشرين وتداعياتها على جميع دول العالم فهي لم تلغ ولن تلغي النموذج المعيشي الامريكي والاوربي من حياتهم.

كما ان هناك إدانتنا لظواهر ليست مفروزة او ناجمة عن واقعنا الذي نحياه الا بمقدار استيرادنا لبعض تلك الظاهرات وخلعها وإلباسها مجتمعاتنا العربية... ثم تأتي بعد ذلك ادانتنا لها مجاراةً لمنطق العصر في ادانته لها... ومن التنويه او الاشارة التي ليست في تلك الضرورة المهمة كونها بديهية وسمة يومية في حياتنا ان هذا لايعني ابداً ان ليس لدينا خوفاً او قلقاً ولا عصابا نفسانيا ولا بطالة بكافة اشكالها ولا تخلفا بشتى مستوياته وانواعه، ولا مستقبلا مجهولة نتائجه...فهذه مسألة اخرى اشبعت كتابة عنها من لدن مفكرين عرب فضحوا فيها المحرمات في تبيان مظالم مجتمعاتنا العربية التي وصل بعضها حد الاشباع والاحباط الميئوس منه ...

فأزمة الانسان الاوربي المعاصر المسكون بالقلق المصيري عن معنى الحياة والوجود الانساني الذي استوردنا الحداثة  عنه وتحمسنا له اكثر منه ونظرنا اكثر مما هم كتبوا عنه... انما كان ذلك القلق ازمة مجتمعات بكل مفرداتها و أفصاحاتها ومعانيها وتياراتها ماديا ومعنويا (نفسياً) اجتماعيا وثقافيا انما هي افرازات مجتمعات في مراحل متقدمة جدا من التطور التقني المرعب – لا اقصد مرعب عسكريا فقط – والاغتراب الوجودي والقلق والضياع والسأم والإحساس بتفاهة الحياة اليومية ولا مغزى ولا غائبة الحياة برمتها... جميعها مفردات إنسانية تختلف كليا عن ظواهر الخوف والقلق من المستقبل التي يتحسسها الإنسان العربي والبلدان والمجتمعات العربية... وهذا لم يعد عليه اختلاف ولا وجود لاجتهاد جديد فيه... فالإنسان المأزوم حضاريا في المجتمعات الغربية هو غيره الإنسان العربي المأزوم عصرياً في المجتمعات العربية من حيث اختلاف المعيارية والقياس، والأسباب ، والدرجة، والنوع، وليس مسألة ذات أهمية كبيرة الاختلاف حول وجود تأزم حضاري أو عدم وجوده... فالأزمة الحضارية تضرب كل مجتمعات العالم اليوم تقريباً.

 

علي محمد اليوسف - الموصل

 

 

في المثقف اليوم