أقلام حرة

منهج اليسر في الإسلام

hashani zghaydiتعلَّمنا من ديننا أن منهج اليسر ليس معناه التفريط في الواجبات الشرعية والمصالح التي جاءت أحكام الشريعة لتحميها وتصونها، إن اليسر رسالة رحمة ميزت الإسلام عن غيره من الشرائع، فكان اليسر هديًا سماويًا ورحمة نبوية، هذا هو منهاج الله الناطق بالوحي يخاطب: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق} فغير مقبول في الإسلام تجاوز الحد في اتباع الحق، والمبالغة فيه إلى حد الخروج عن المنهج الذي بلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا وجدنا من ينازع الحق الواضح البين، فبذر بذرة التطرف والغلو في الخطاب الإسلامي، والإسلام بريء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام .

إن منهج الإسلام نطقت به السنَّة المطهَّرة في وضوح ما بعده وضوح؛ فعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت: ما خيِّر رَسُول اللَّهِ ﷺ بين أمرين قطُّ إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعدَ الناس منه، وما انتقم رَسُول اللَّهِ ﷺ لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة اللَّه فينتقم لله تعالى. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وقد ظهر منهج اليسر في الجانب التشريعي من خلال منظومة قيم الهدي القرآني في تبليغ رسالة الإسلام في آيات كريمة كثيرة ، أشارت إلى دلالات اليسر، نعرض بعضًا منها ، فتأمل الآيات وتدبُّرها، حين يخاطبنا الله بهذا الأسلوب الرباني الهادي الجميل، يخاطبنا بلغة يفهمها الجميع في ألفاظ واضحة الدلالة؛ يقول الله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}، إن الله يريد أن تصبغ حياتنا كلها بهذه الخاصية؛ لأن الخالق أدرى بشؤون خلقه، وهو أدرى بطبيعة النفس البشرية المجبولة بفطرتها على اليسر والتيسير، ولأن الضعف طبيعة بشرية أقرَّها الله تعالى فيه.

كما يتجلى منهج اليسر في جانب النصوص النبوية الشريفة المشرِّعة؛ لتجعل الدين الإسلامي مميزًا بخاصة اليسر، فتأتي النصوص النبوية توافق نفس المنهج في السياق القرآني، وتُبرز حاجة هذا الكائن الفطرية لهاته الخَصيصة؛ ففي صحيح البخاريِّ حديث النبي ﷺ (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا) وهو توجيه لعموم المسلمين؛ ليتحلَّوا بهذه السمة في كل حياتهم، وهذا يؤكد نقاء هذا المنهج من صور الغلو والتطرف والمغالاة في التشدد، وهي حجة كافية لكل من سلك طريق التطرف عن سوء فَهم أو شطط في التطبيق والممارسة.

وحين نقف عند صور اليسر في الشريعة من خلال يسر الإسلام في العبادات، تتجلى لنا عظمة الرحمة والشفقة في رفع الأسر والأغلال والحرج، فنجد اليسر في الطهارة، فيشرع الله لنا التيمُّم، وفي الصلاة يشرع لنا القصر فيها، وقس على ذلك في العبادات كلها في الصيام والحج والجهاد؛ فاليسر منهج خص الله به شريعة الإسلام دون غيرها من الشرائع، فاليسر خصيصة تتجاوب معها الفطرة السليمة؛ لأن الإنسان معرض للطوارئ والظروف الاستثنائية، وفي بعض الأحيان للمواقف الحرجة التي غالبًا ما يكون سلوك الفرد يجنح للثورة والغضب، فتأتي التربية السليمة موظفة منهج اليسر في التعامل في مواقف الحياة لرفع المشقة والضيق.

هي الآيات ترسم منهج اليسر في الإسلام في صور كأنها مصابيح هداية للحيارى، الذين أغرتهم الشبهات فوقعوا في المحظور، هي آيات ناطقة ترسم المنهج في وضوح لا شبهة فيه، فتأتي الآيات تجلي الأوهام، معلنة: هذا هو الإسلام الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في بيان منهج اليسر من خلال مشكلات حياتية. وقال جل جلاله: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[التوبة: 91- 93] .

إن منهج اليسر في صوره إنما ترعاه مدارس الوسطية، التي تفهم الإسلام بشموله، منهج يتعامل مع الفطرة السليمة، كما فهمه الصحابة عليهم الرضوان ومن جاء بعدهم من السلف الصالح، فكل تضييق على مدارس الاعتدال تكون نتيجته اتساع بؤرة الغلو والتطرف، وأن ما نراه اليوم من صور مخيفة مرعبة لانتشار الغلاة مردُّه لسبب واحد يتمثل في انحصار الفهم الوسطي ومحاربته؛ لأن الأحق بالشهادة على الناس والنموذج الأقرب للاقتداء هو تيار الوسطية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

 

بقلم الأستاذ حشاني زغيدي

 

في المثقف اليوم