أقلام حرة

مهدي النجم والإصلاح الزراعي

jawad abdulkadomعندما أكمل صديقنا المرحوم مهدي عبد الحسين النجم دراسته الإعدادية في ثانوية المسيب للبنين كانت رغبته الأولى القبول في الكلية العسكرية، فحمل أوراقه إليها بعد أن وجد من يساعده على تحقيق هذه الرغبة التي عاشت في داخله سنينا عديدة، واجتاز الفحص الطبي والبدني بنجاح وهو الممارس للرياضة فضلا عن مواهبه الأدبية والفنية المتعددة، وحدد موعد لمقابلة المتقدمين كما جرت العادة في هذه الكلية .

ذهب مهدي مبكرا وانتظم في صفوف المنتظرين لإجراء المقابلة، حتى نودي باسمه، فدخل قاعة، فوجد مجموعة ضباط من ذوي الرتب العالية، وقد جلسوا خلف طاولة مستطلية وضعت فوق المنصة، وكان ملف أوراقه بيد أوسطهم وهو الأعلى رتبة بينهم، فنظر الورقة الأولى، وفيها المعلومات الشخصية، ومنها الانحدار الطبقي، وقد كتب مهدي أمامه أنه منحدر من أسرة فلاحية، وكان والده من صغار ملاكي الأراضي والبساتين في المسيب، ولم يكن مستساغا في ذلك العهد كتابة (الانحدار من أسرة الملاكين)!!

توقف رئيس اللجنة عند هذا الأمر، وسأله : مادمت منحدرا من أسرة فلاحية، فما هو رأيك بقانون الإصلاح الزراعي ؟

فأجاب مهدي على الفور : أنه قانون فاشل !!

صدم رئيس للجنة ومن معه بهذا الجواب إذ كان يتوقع مادام المتقدم الماثل أمامه ينحدر من أسرة فلاحية فلابد أن يكون جوابه أن قانون الإصلاح الزراعي من خيرة القوانين، ويمضي في الثناء عليه، وما تحقق بفضله للبلاد !!

رفع رئيس اللجنة عينيه نحو مهدي وقال : كيف ؟

وشعر مهدي بالحرج الشديد من إجابته المتسرعة وهي تمثل رأيه الحقيقي بالقانون، ولكنه تمالك نفسه، وقال : ليس أدل على فشله من تحول العراق من دولة مصدرة للحبوب قبل تطبيقه إلى دولة مستوردة لها بعد تطبيقه مباشرة !!

وانتقل الحرج الشديد من مهدي إلى رئيس لجنة المقابلة ومن معه بعد هذا الجواب المفحم، ونجح مهدي في المقابلة، وكان على رأس قائمة المقبولين، ولكن حدث بعد أيام ما لم يكن في الحسبان ؛ فقد وقع انقلاب السابع عشر من تموز سنة 1968م، وألغي قبول جميع من تمت الموافقة عليهم، وانحصر القبول بقائمة حزب الانقلابيين فقط !!

هذه الواقعة جعلتني أتوقف أكثر من مرة عند (قانون الإصلاح الزراعي) الصادر سنة 1958م، وراجعت تفاصيله وتعديلاته وآثاره على أرض الواقع، وعلى الرغم من كوني من أشد مؤيديه في السابق، إذ كنت أرى في تشريعه إنصاف الفلاح ومساعدته وتخليصه من جور وظلم مجموعة من الإقطاعيين القساة، والحد من هيمنتهم على الحياة العامة وتأثيرهم فيها، ولكني بعد تلك الوقفات الموضوعية وجدت فيه ظلما كثيرا وأضرارا فادحة (سياسية واقتصادية واجتماعية) لحقت بالبلد ومواطنيه فاقت الفائدة المتحققة فعليا منه، وكان يمكن تجنبها سلميا وبسهولة مع تحقيق الغاية المنشودة من تشريعه ..

كان على الحكومة أولا أن تنظر إلى مصدر حصول أولئك الإقطاعيين على تلك الأراضي، فإن كان حصولهم عليها بطرق غير شرعية وجب مصادرتها والاستيلاء عليها، وإن كان الحصول عليها عن طريق الإرث  من آبائهم أو بالشراء من قبلهم ؛ فلا يحق في مثل هذه الحالة مصادرتها لأنها من ضمن المال خاص وهو مقدس ويحرم الاقتراب منه شرعا وقانونا، كما كان بإمكان الحكومة القيام باستصلاح أراض جديدة وتوزيعها على الفلاحين المستحقين، أو قيامها بتقديم عرض لشراء مساحات من أراضي الإقطاعيين الراغبين بالبيع والحصول على المال لحاجتهم له، وغير ذلك من طرق أخرى كثيرة يعرفها المتخصصون .

نقل عن رئيس وزراء العهد الملكي المخضرم نوري السعيد عندما سئل عن كيفية معالجة مشكلة امتلاك الإقطاعيين للأراضي الشاسعة ؛ جوابه أن القضية ستحل بشكل طبيعي خلال جيلين أو ثلاثة على أكثر تقدير، فحينما يموت الإقطاعي ستنتقل ملكيته إلى أبنائه، وإن مات هؤلاء الأبناء انتقلت إلى أبنائهم أي الأحفاد، وهكذا ستتفتت الإقطاعيات الكبيرة بهذا الانتقال إلى أجزاء صغيرة فأصغر بشكل طبيعي؛ وأود الإضافة أن هذا الكلام لا يخلو من الصواب خاصة إذا عرفنا أن لأغلب الإقطاعيين ولع شديد بتعدد الزيجات والإنجاب المفرط مما يسهل عملية التفتيت هذه، ويسرع في تحقيقها !!

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم