أقلام حرة

اللعبة الغريبة!!

jawad abdulkadomفي مطلع شهر تشرين الأول سنة 1978م تم تسويقي (هكذا ترد في  المصطلح العسكرية) من دائرة تجنيد المسيب إلى مركز تدريب مشاة الحلة، وقد التحقت مباشرة به مع مجموعة غير من المسوقين، فاستقبلنا تحت ظلال الأشجار في حديقة واسعة أحد الضباط بكلمة ترحيبية، ثم وزعنا على السرايا، فكنت في السرية الأولى الفصيل الرابع، وشاءت الصدفة أن يكون رئيس عرفائها قريبا لزميل لي في عملي بالشركة العامة لصناعة الحرير، فاعتنى الرجل كثيرا بي، ولم تتوقف مساعدته لي إلى يوم انتقالي إلى سرية المقر في المركز نفسه، فودعته شاكرا .

وشاءت الصدف ثانية أن يقع الاختيار عليّ مع ثلاثة جنود آخرين للالتحاق بدورة مستعجلة فتحتها مديرية تربية بابل لتأهيل معلمين للعمل في مراكز محو الأمية الحديثة المزمع افتتاحها ضمن (الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية)، ومنها المركز الذي سيفتتح في وحدتنا العسكرية، وكنت وزملائي من المميزين في هذه الدورة لنثبت جدارتنا، وقد استفدنا كثيرا منها، وتعرفنا على عدد غير قليل من فضلاء المدينة ومنتسبي دوائرها الحكومية الملتحقين معنا في هذه الدورة التعليمية .

كان زملائي الثلاثة الآخرين في الدورة ثم في مركز محو الأمية هم : عبد الأمير كاظم شحاذة من مدينة الإسكندرية، ومهدي غني من الكرادة، وعامر خزعل من الحلة، والأخير كان الأقرب إلى نفسي لما كان يتحلى به من أخلاق عالية ونباهة، فتوثقت بيننا عرى صداقة متينة إلى يوم تسريحه ومغادرته المعسكر قبل بدأ الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980م بشهرين تقريبا!! ولم تنقطع علاقتنا فقد بقينا على صلة لسنوات عديدة تالية إذ كنت أزوره في محل عمله بمركز للتأهيل في الوزيرية وشقته القريبة منه، كما دعاني لحضور حفل زفافه بعد سنتين من تاريخ تسريحه، واستقر في بغداد ..

الطريف في علاقتي مع عامر الحلي هذه أني علمت بسكنه في محلة الكلج، وأن عائلته من قدماء ساكنيها، ولأن زوجتي (كلجاوية) فقد سألتها عن عائلتهم، فعرفتهم وأثنت على سمعتهم الطيبة، وأخبرتني أنهم من السادة العلويين، وحدثتني عن تفاصيل أخرى تتعلق بهم، فخطر في بالي أن (استثمر) هذه المعلومات الخاصة بشكل تدريجي في (مقلب) سلمي يثير العجب والتساؤل لدى هذا الصديق العزيز!!

وذات صباح وعند وقوفنا متجاورين كما اعتدنا كل يوم في ساحة العرضات، وقبل بدء فعاليات التقديم المعتادة بلحظات قليلة همست في أذن صديقي عامر :

- أﮔلك عامر والدتك مو اسمها (...) ؟

جفل عامر لهذا السؤال المفاجئ الذي لم يكن يتوقعه مني أبدا!! وظل حائرا، وزاد في حيرته أن الموقف الذي نحن فيه لا يسمح بالكلام أثناءه!!

حالما انتهت العرضات جاءني عامر متلهفا لمعرفة سر معرفتي لاسم أمه!! ولاذت بالصمت!!

وفي اليوم التالي أعدت التمثيلية لأخبره باسم جدته لأبيه!! وبعدها جدته لأمه، وبعدها أسماء عماته!! وأسماء خالته!! ولكن في كل يوم أذكر له اسما واحدا فقط للمزيد من الإثارة!!

ورغم توسلاته لم أخبره بمصدر معلوماتي!! فبلغت الحيرة به مبلغا كبيرا!! فدعا عائلته لاجتماع طارئ وموسع – كما نقل لي - ضم والده ووالدته ومن حضر من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته، وطرح عليهم الأمر ذاكرا لهم اسمي الثلاثي واللقب ومحل سكني (المسيب)، وشرقوا وغربوا واتصلوا بمن يعرفون قبل أن يستسلموا ويعترفوا له أنهم لا يعرفون شخصا بهذا الاسم أو يسمعوا به!!

ازدادت حيرته، ولم يهدأ له بال، وهدد بمقاطعتي إن لم أخبره بسر معرفتي لتفاصيل أسماء عائلته ومعلوماتي عنها!! ولم أرضخ لتهديده لأنه لن يستطيع مقاطعتي مثلما لا أستطيع أنا مقاطعته!! ورأيت القلق الشديد على ملامح وجهه لأكثر من أسبوعين وأنا أعيش – يا لقسوة قلبي!! – فرحا بهذه اللعبة الغريبة!!

نفد رصيدي من المعلومات عن عائلة الصديق عامر التي أمدتني بها زوجتي (الكلجاوية)، فرأيت أن استعين بأحد أقاربها من (الكلجاويين) الذيم مازالوا قربين من المحلة؛ لعله يستطيع تزودي بمعلومات أخرى جديدة كي استمر بلعبتي الغريبة، فاتصلت بأحدهم، وطلبت منه ذلك، فسألني عن سبب طلبي لمعلومات عن هذه العائلة الطيبة، فأخبرته بحقيقة الأمر وما أبغيه من ممازحة صديقي العزيز عامر ولعبتي معه!! فلم يرق له ذلك والحق معه!! بل ما كان منه إلا الذهاب لصديقي عامر في عصر اليوم نفسه ليوقفه شخصيا على حقيقة الأمر، ويكشف له السر الذي حرصت على إخفائه عنه!!

من المؤكد أن صديقي عامر لم ينم تلك الليلة منتظرا صباح الغد ولقائي به قبل الذهاب إلى ساحة العرضات ليعلن لي بكل مشاعره المكبوتة اكتشافه لسر هذه اللعبة التي حيرته طويلا وربما أزعجته كثيرا!! واستغرقنا معاً في ضحكة عميقة، وحدثنا بالتفاصيل بعض زملائنا ممن وقف متفرجا ومستفسرا عما يضحكنا، وصارت القضية ذكرى جميلة وقصة تروى للآخرين!!

 

في المثقف اليوم