أقلام حرة

علاقة الواقع بالذاكرة في شعر يحيى السماوي

saleh alrazuk2من خلال متابعتي لتجربة الشاعر الصديق يحيى السماوي انتبهت لعلاقة الذاكرة بالمكان. فالعاطفة في مجمل أشعاره لها إيقاع ذاكرة حساسة. ويمكن تحديدها في ثلاثة تيارات أساسية.

النوستاجيا أو مرض الحنين. وغالبا تكون من صور وموضوعات الذاكرة البعيدة. ويتحكم بها الوعي الباطن. ولذلك تغلب على المشاهد صور ملائكية. ولكن هذا لا يمنع الإحساس المؤلم بالعذاب والانفصال والسقوط  من شجرة المثل والقيم العليا. وبوجيز العبارة تحتل هذه القصائد مفاهيم لأطوار. طفولة برئية ترى الوطن جنة غناء  كما ورد في قصيدة (تطهر) حيث يقول:

طفلا عدت

وعاد الطين

رطبا مثل زهور الزنبق

والنسرين. (1)

ورجولة مفعمة بالمخاطر والمغامرات. حيث يعتقد أن المنفى نتيجة للذل والخنوع والهزيمة. بمعنى أنه ليس حلا ولكنه ضرورة. فهو لا ينظر للمهجر كهدف مجرد ولكنه نافذة للخلاص من الحفرة التي ينحدر إليها. والمثال على ذلك قصيدته المتميزة (أديلايد) وفيها يقول:

أتيت من تلقاء قلبي

حاملا حزن الفرات وذل دجلة

هاربا من جنة الوطن الشهيد الحي (2)

وكذلك قصيدته (أيها الفرح) والتي ورد فيها:

وأنت أيتها الغربة

كوني زليخة

لأكون قميص يوسف (3).

ولا يخفى على أحد العلاقة المجازية في أسطورة النبي يوسف وتجاوز امرأة العزيز لمقتضيات الضيافة والشرف.

إن مثل هذا التقسيم النفسي والذهني للمعاني حدد نوع المفردات والتراكيب. فقد كانت شفافة فيما يتعلق بالماضي البريء وملتهبة بالغضب والسخط فيما يتعلق بالحاضر وكبواته والخسارة التي يمنى بها. فالحياة مثلا تبدو له على وقع الحاضر رتيبة ورافضة أو أنها مانعة، وتكثر فيها المكبوتات والمحرمات،  مثل الثياب القصيرة، بحر الأنوثة، ماء الاستحمام، الرحلة بين صباح الصدر والجيد وليل الخصل، إلخ...   

التيار الثاني هو النبرة الناقدة. ويكون الشاعر فيها على مقربة من الوطن، وينظر لكل شيء من خلف الزجاج العازل، ولذلك تغلب عليه مشاعر الانفصال والاغتراب. وهي التي تساعده على رؤية السقطات والأخطاء. ولا سيما دورة العنف. وبودي الإشارة إلى أنه عنف أسود، ليس موشى بالدم فقط ولكن بالنوايا المبيتة. وفي مقدمتها الأحقاد والضغائن. بالإضافة إلى القسوة والأحزان. وما يترتب عليها من مشاعر بالخسارة كخسارة صديق يتأسى الشاعر عليه أو موت إنسان عزيز مجرد التفكير برحيله مأساة أو أنه فاجع. وأود التشديد على هذه الكلمة، لأن حزن السماوي في هذه الحالات يأخذ أبعادا وجودية، ويقترب كثيرا من رثاء الذات.

فالموت لديه نهاية، والدافع هو ذنوب الوطن التي تحولت إلى خطايا، وليس مجرد زلات وهفوات، مثل ذنب وفاة والدته في غيابه، لأنه لو لا الخوف من التعذيب ومصادرة الحريات لما تشرد خلف الحدود وترك أمه وحدها. وهكذا يتحول الرثاءإلى  مناسبة مثالية لمزيد من النقمة والنقد الجارح. ولتحميل الأوضاع العامة مسؤولية خسارته لذاكرته وماضيه.

وبهذا الاتجاه يقول في أولى قصائد مجموعة (ثوب من الماء) :

وأقول لي

الذنب ذنبك

كنت تعرف أنه

عصر الخطيئة والذنوب (4).

قبل أن يقول بلغة مباشرة وحاقدة:

وطن ولكن للصوص

ومن تجاهد بالنفاق (5).

ومع أنه بعيد عن التصوف كعاشق في الذات الإلهية، لكنه يتحول في هذه المرتبة من الإنشاد الشعري إلى إنسان يعاتب ربه كما فعل النفري في مناجاته قبل انبلاج النور والتجلي. وبتعبير آخر تصبح ذاكرة الممانعة والعتاب عند الشاعر أشبه بالذاكرة النفسية للمتصوف وهو يكابد في سبيل الاتحاد أو الانصهار. وفي الحالتين تشعر بالحاجز الوجودي بسبب عدم الإمكانية أو امتناع المماثلة.

فالشاعر لا يمكنه أن ينسى الحفرة التي ألقاه فيها النظام، مثل المتصوف الذي لا يمكنه أن ينسى أنه على الجانب الخطأ من العازل. فالأسلاك الشائكة تلعب نفس الدور في الحياة وفي الخيال، وهي التي تمنع الإنسان من التواصل مع طبيعته أو ذات نفسه.

كما في قوله:

ضاق التراب

من التراب (6).

وقوله:

فر العراق من العراق(7).

التيار الثالث والأخير وهو إلغاء الواقع والاكتفاء بالذاكرة بحيث يصبح الإثنان بمرتبة واحدة.

وهنا يتحقق التوازن الموضوعي في الذات الشعرية. وتنفتح على الغرائز وعالم الرغبات.

بمعنى آخر: يغيب الواقع وتحضر أمنيات الذاكرة.

وبلغة أوضح: يدخل الشاعر في غيبوبة أحلامه، ويناجي معشوقاته الواقعيات والمتخيلات، وغالبا المزيج من الطرفين، لأنه في معظم الأحيان يعزو لمعشوقاته صفات تجريدية .

***

لقد لعب موقف الذاكرة من الواقع دورا هاما في كل السير والمذكرات وعلى رأسها (أيام) طه حسين. وهذا مثال بغاية الحساسية لأنه يعاني من نقصان في الحواس. فالمشاهدة تكون بعين خياله وليس بعين بصره. وعليه إن الذاكرة عنده هي نشاط ذاتي مائة بالمائة، ولا يمكن أن تكون موضوعية أو طبيعية. مع ذلك لم يخرج على محددات الفكر الواقعي الطبيعي، وكان سمعه يدخل في بوتقة التحويل الوجداني لتشكيل المرئيات.. الطول والعمق والسعة والامتداد. وهذا واضح منذ افتتاحية الجزء الأول في كلامه عن سياج الحقول والأفق وتعاقب الليل والنهار. وبهذه الروح كان الشاعر يحيى السماوي يفكك مكونات وعناصر حياته الواقعية، إما أن يكون الواقع خلف الذاكرة، وتحجبه رغبات الذات، فيرى ما يريد فقط.

أو أن يكون الواقع أمام الذاكرة. بمعنى أن الذات والموضوع في مواجهة علنية ومكشوفة، وفي حالة تقاطب، ولا يمكن لأي طرف أن يهرب من تفاصيل الآخر.

أو أن تتسع دائرة الذاكرة ويسقط الواقع فيه، وتدخل الذات في غيبوبة نشيطة، ويفرض الوعي الباطن نفسه. وأعتقد أن يحيى السماوي يفضل هذه الحالة من الغشيان بالذات، وتسليم مقاليد المنطق إلى اللاشعور. ويختصر كل هذه الفلسفة في استراتيجية تضع الحلم فوق وقبل الواقع. كقوله في قصيدة بعنوان (ندى):

وراء كل صحو جميل

حلم أجمل (8).

ولهذا السبب برأيي كان الغزل أهم الموضوعات عنده، واحتل أكبر مساحة من تجربته الفنية.

وعموما إن عشقيات السماوي ذات أهداف سياسية، لأن موضوعة المرأة العظيمة (كما ورد في مقالة للدكتور سرمك حسن) سرعان ما تتحول إلى موضوعات للرؤيا مع تكرار خلاق يتحرش بمصادر الانحراف والفساد والحرمان (9). ص 14. مقدمة حديقة من زهور الكلمات.

 

د. صالح الرزوق

.................

هوامش:

1 مجموعة ثوب من الماء لجسد من الجمر. ص 107.

2 المحموعة السابقة. ص 126.

3 محموعة حديقة من زهور الكلمات. ص 55.

4 مجموعة ثوب من الماء. قصيدة أخاف علي مني. ص 10.

5 المجموعة السابقة. قصيدة وطن ولكن للصوص. ص 94.

6 المجموعة السابقة. قصيدة ست فسائل. ص 66.

7 المجموعة السابقة. قصيدة وطن ولكن للصوص. ص 95.

8 مجموعة جديقة من زهور الكلمات. ص 74.

9 من مقدمة حديقة من زهور الكلمات. ص 14.

تشرين الأول 2017

 

 

في المثقف اليوم