أقلام حرة

"صانع المعجزات" والقراءة البراجماتية للمسألة الدينية

1155 aliصانع المعجزات هو كتاب لمؤلفه الصديق العزيز عادل عبدالله، الناقد الأدبي المعروف والحاصل على الماجستير في الفلسفة من الجامعة المستنصرية.

عُرِف عادل عبدالله بكتاباته النقدية، وبإهتمامه بالفلسفة قراءة ودراسة، وإن كانت دراسته الأكاديمية للفلسفة جاءت متأخرة قليلاً، فهو يسبقني في قراءتها ودرايتها، ولكنه درسها متأخراً بعد فتح الدراسات المسائية للفلسفة في قسم الفلسفة بكلية الآداب في الجامعة المستنصرية، وشاءت الظروف أن أُدرسه في مرحلتي البكالوريوس والماجستير في هذا القسم، لحرصه المعرفي في تطوير مهاراته الأكاديمية فضلاً عن حضوره الثقافي اللافت، وقد كان متميزاً في مواظبته على الدرس وعلى التأليف في الوقت ذاته.

حصل على الماجستير في الفلسفة بتميز، ولكنه لم يُكمل الدكتوراه بسبب إنشغالاته العائلية والوظيفية التي تتطلبها مقتضيات حياته العائلية للعيش.

المهم اليوم وأنا أُحاول ترتيب مكتبتي الذي لا أعتقد أنه سينتهي، وجدت كتابه الأخير الذي أهداه ليّ "صانع المعجزات"، ولأني كعادة كثير من العراقيين والعرب لا نُعير كثير إهتمام لكتاب مُهدى إلينا بقدر إهتمامنا بكتاب إشتريناه، فقد ضاع بين "خبصة" الكتب بسبب سوء ترتيبي وتصنيفي لها، ولكنّي اليوم، بعد تعب وجد في الترتيب والتصنيف لكتبي، وقع بين يدي هذا الكتاب، فقلت مُحدثاً نفسي، لماذا لا أقلب صفحاته، أو أنظر لمحتوياته، وكرماً مني ومجاملة لعلي أقرأ مقدمته أو خاتمته، وزيادة في إيثاري لربما أقرأ المقدمة والخاتمة، فلربما ألتقي الرجل صدفة، وقد حصل، ولكنّي آنذاك قد نسيت أن له كتاباً بهذا العنوان المثير، قد أهداه ليّ متفضلاً، وأنا الآن شاكراً له وشكورا، فقد أخطأ من قال "أن مغنية الحي لا تُطرّب، والشاهد أن زهور حسين ووحيدة خليل ومائدة نزهة أطربننا... إلخ.

ولنعد لصانع المعجزات، كتاب عادل عبدالله، الذي وجدت فيه عادل عبدالله شاخصاً أمامي "الإنسان الحائر بين العلم والدين" وأرجحية أحدهما على الآخر، فهو لا يُرادف بين الخرافة "الميتافيزيقا" كما هب إلى ذلك زكي نجيب محمود في كتابه "خُرافة الميتافيزيقا"، ولا يجد في العلم أجوبة لحسم هذا الصراع بين الدين والعلم، وإن إنتصر العلم في وقفاته وتحدياته في عوالم القرنين التاسع عشر والعشرين في الثورة الصناعية، ولكن سؤال الميتافيزيقا عن أصل الوجود بقيّ سؤالاً قائماً والقول بإمكانية وجود خالق للكون هو سبب وجوده، ويمكن أن يكون بقدرته على الوجود قادراً في الوقت ذاته على خرق قواعد وقوانين ونُظم ذلك الوجود، عبر إتيانه بالمعجزة، فوجود المعجزة والإعتراف بوجودها من عدمه مرتبط بمقدار إعترافنا بوجود إله من عدمه، وفي حال ترجيح القول بوجود إله مُفارق خالق ومبدع للوجود، لا يكون ولا ينبغي لأحد من مؤيدي هذا القول بإنكار إمكانية وجود المعجزة، والقول بإنكارها في حال الإيمان بوجود إله خارق مُوجِد للكون وإنكاره له بوصفه القادر على خلق النظام، الأمر الذي ينبني عليه لزوماً وضرورةً القبول بالقول أنه القادر هو وحده على خرقه، فهو "صانع المعجزات".

ولأن جديد نظريات العلم يُفنّد قديمها، حسب منهج "التفنيد البوبري"، فنجد العلم يتخلى عن نظرية علمية أيدتها التجارب والوقائع، ليتخلى عنها، وتفقد قيمتها التفسيرية للوجود بمجرد ظهور نظرية علمية جديدة تؤيدها وقائع المتغير وفق المنهج الإستنباطي البوبري أو وفق منهج الإستقراء التجريبي، وفي ضوء تقلبات العلم وعدم ثباته على نظرية علمية مُححددة فليس بالغريب إذن أن ينتهي أو يستمر المتدينون واللاهوتيون في تأويل وتقويل النص الديني بما هو محايث للعصر ومتساوق معه على قاعدة "التفنيد". لكن ليس وفقاً لمتغيرات الواقع التجريبي الذي لا يستبعده مفسروا ومؤولوا النص القدسي تماماً، إنما وفقاً للحل البراجماتي الكانتي، الذي يفسح المجال للإيمان، وفقاً لقول"أفيري دوللز": " إذا كانت الطبيعة هي نثرُ الله، فربما يجب أن تُسمّى المعجزات نثره" (ص35، صانع المعجزات).

في تقسيم "كانط" الأخلاق إلى "ميتافيزيقا الأخلاق" التي يُدّرجها في خانة "المبادئ الأخلاقية المطلقة الصحيحة "الأولية" بالنسبة لكل كائن عاقل، و "الأنثربولوجيا العملية" ذات البعد التجريبي لما يُعانيه البشر في الواقع.

وهنا يطرح "كانط" رؤيته للتوفيق بين معطيات المقولات "القَبليَة" الفطرية، ومعطيات الواقع "البَعدي" الذي يفرضه علينا الواقع، لنُعيد التوازن بين مقولاتنا "القَبليِة" الكامنة صحتها في عالم "الفينومين" مع معطيات ومتطلبات الظاهر أو الواقع "البَعدية" "النومين"، لتجاوز بذرة الوجود الطبيعي بين بني البشر القائم على التنافر والتنازع لإستبداله بمنطق االتنافس.

إنثربولوجيا "كانط" الأخلاقية هذه، هي التي إتخذها فلاسفة البراجماتية الأمريكية، وأولهم جارلس بيرس، ليجعل منها "نظرية في المعنى"، ليُعيد إنتاجها وليم جيمس ليجعلها نظرية في الصدق، كي تكون حلاً لنظرية المعرفة في حيرتها وإنشغالها في الكشف عن أصل المعرفة: هل هو العقل، أم التجربة، أم الحدس؟، لتعطي جواباً عملياً يُنسجم وطبيعة تكوين الجتمع الأمريكي الهجين الذ لا ماضٍ حضاري له بقدر مُنتجه الحاضر ول تاريخ مشترك بين ساكنيه "الجُدد" سوى "المستقبل"، فكانت الإجابة البراجماتية بأن "قيمة تبنينا لقضية أو فكرة ما هو في الثمار المتأتية من تبنينا لها" لتكون حلاً وسطاً بين "الروحيين" المتدينين المثاليين و "الماديين" الواقعيين، فمن وجد في تبنيه للمعجز الديني راحة وطمأنينة، فتبنيه له صادق وصدقه كامن بقدر ما يُحقق له هذا المعتقد من طمأنينة وسعادة، والعكس صحيح، فللفرد حُرية الفكر والإعتقاد بصدق متبياته الفكرية والعقائدية بمقدار ما تُحققه له مُعتقداته هذه من راحة وطمأنينة وسعادة ليس فيها ضرر ولا تخطئة وإقصاء لمن خالفه، لأنها آراء لا يمكن القطع بصحتها وأدلة إثباتها مساوية عند المتبني لها مساوية لأدلة نفيها عند المغاير والمختلف، ولذلك فلا مناص للجميع في وطن واحد سوى تقبل الأبيض للأسود وتقبل المؤمن للملحد وتقبل ذو الأصول الإنكليزية لذي الأصول الإسبانية وتقبل السكان الأصليين "الهنود الحمر" لكل الوافدين على هذه البلاد الجديدة.

ولأن الكلام عن كتاب عادل عبدالله "صانع المعجزات" الذي يخوض في التعريف المعجمي والقاموسي لمفهوم المعجزة والتعريف به وفق رؤى بعض الفلاسفة والعلماء والإستطراد بعرضها وفق أطروحات "سبينوزا" و "فولتير" و "كانط" و"هيوم"... إلخ، ليَحشر بينهم رؤية السيد محمد حُسين الطباطبائي دون غيره من مفكري وفلاسفة العرب والمسلمين، (ص296) في تعريفه للمعجزة، ليتبنى رأيه في المعجزات في أنها "ليس مما تُنكره عادة الطبيعة، بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى الميت، والميت إلى حي، وتحويل صورة إلى صورة حادثة، وحادثة إلى حادثة، ورخاء إلى بلاء، وبلاء إلى رخاء" (ص300)، وإن كنت لا أجد أن في وصف الطباطبائي هذا مما يُمكن وضعه في خانة المعجز، وإن كان لا بد من وضعه، فهو لا يخرج عن التصور الأرسطي في الكون والفساد، أو في تصوره لخروج العقل من القوة للفعل.

ليصل عادل عبدالله لنتيجة مؤداها: "أن المعجزات وحدها تُمثل الوسيلة الأخيرة التي يستخدمها الله لحمل الناس على التصديق" (ص280).

وكأنك تصل معه إلى أن حسم القول بصدقية المعجزات وحصولها من عدم، هو أمر ترجيحي بين دُعاة إنكارها ممن هم من الفلاسفة الماديين والعلميين وبين المنافحين في الدفاع عن وجوده، وكمن فسر الماء بعد جهد بأنه الماء.

 

في المثقف اليوم