أقلام حرة

أولَيات سفراتي إلى بغداد

jawad abdulkadom2أول سفرة وعيتها في حياتي إلى بغداد كانت في بداية صيف سنة 1959م، وكنت في الخامسة من عمري، وقد أيقظني الأهل عند سماع أذان الفجر، وبدؤوا بالتأهب، ولما انتهوا غادرت معهم البيت قصدين كراج بغداد (كراج مكاوي)، وكان قريبا منا، فوجدنا أمامه في الشارع العام قد وقفت سيارة باص خشبية، وفي داخلها عدد من الركاب، وقد بان أثر النعاس على عيونهم، وهم ينتظرون قدوم البقية، ولما جاء البقية وامتلأت السيارة بهم (قبطت)، أخرج مساعد السائق (السِكن) قضيبا حديديا في أحدى جهتيه إعوجاجان بزاويتين قائمتين، وجهته الثانية أشبه ما تكون بصليب صغير، وقد أدخلت في محرك السيارة من الخارج، وأديرت أكثر مون مرة فدار المحرك، واشتغلت السيارة، وانطلقت بنا شمالا، وقد ارتفعت دعوات الراكبين بالسلامة .

كان مسير السيارة بطيئا جدا قياسا إلى سرعة سيارات الوقت الحاضر، وكل الطرق كانت بمسار واحد، ومن المؤكد أن السيارة مرت بنا من أمام مدينة الإسكندرية الصغيرة من دون أن تعبر قنطرتها إلى الجهة التي يقع فيها الخان الشهير وحوله مجموعة من البيوتات، وواصلت السيارة سيرها بمحاذاة نهر الإسكندرية من جهة اليمين حتى بلغت منطقة الحصوة، فعبرت قنطرتها لتكون على الطريق العام المؤدي إلى بغداد، وعبرنا سكة حديد بغداد البصرة، وقنطرة نهر اللطيفية، وقنطرة شيشيبار، وقد اتضحت الرؤية (كشف الوكت)، ولاحت على الجانبين بساتين النخيل الكثيفة، وقبلها لم أتبين من الطريق شيئا إذ كان الظلام دامسا، وبلغنا مدينة المحمودية بعد مدة ليست بالقليلة من تركنا مدينة المسيب .

وقفنا عند مطعم وبجانبه مقهى في مدخل المدينة وهناك العديد من المقاهي والمطاعم بعدهما، ونزل الركاب من السيارة تباعا، بعضهم ذهب إلى المطعم لتناول الفطور، والآخر دلف إلى المقهى لشرب الشاي، وتولى السائق ويدعى (جنجون) فتح غطاء المحرك وتبريده بالماء !!

وعلى ذكر السائق (جنجون)، وهو من قدماء السائقين من أبناء مدينة المسيب، وتروى عنه بعض القصص الطريفة، منها أنه في أيام الحرب العربية الإسرائيلية الأولى بعد نكبة ضياع فلسطين سنة 1948م، جمع (جنجون) أجور الراكبين (الكروة) بعد أن تحركت السيارة من المسيب قاصدة بغداد، فوجد نقصا فيها !! وحاول عبثا معرفة سبب النقص في الأجور أو صاحبه، فغضب، ودعا الله بصوت عال أن يذهب إلى فلسطين لعله يموت و(يخلص من قهر هذه المشاكل)، وعند وصول السيارة بركابها إلى أول سيطرة في مدخل مدينة بغداد الجنوبي وكانت قرب جسر الخر يومذاك حجزت سيارة جنجون من قبل الانضباط العسكري لنقل الجنود إلى الجبهة في فلسطين !! فأخرج (جنجون) رأسه من السيارة ناظرا نحو السماء (ليش ياربي بس هاي تسمعها مني وسويها فورا) !!

بعد أن انتهى الركاب من تناول الفطور والشاي وعادوا للسيارة، وقد اكتمل تبريد محركها، فشغلت ثانية بواسطة (الهندر)، وواصلت سيرها، فمررنا بمدينة صغيرة هي اليوسفية، وعبرنا قنطرتها، ومنها إلى بغداد كانت الأرض خلاء وتدعى (عويريج)، ورأيت على الجانب الأيسر من الطريق على مسافة ليست بعيدة منه بناء يشبه قلعة صغيرة كانت جدرانه عابة ومصبوغة باللون الأبيض، وهو مخفر للشرطة لحراسة الطريق وتأمين سلامة سالكيه .

بلغنا علاوي الحلة، وهي المحطة الأخيرة في رحلة الباص الخشبي الذي انطلق بنا من مدينة المسيب، وقد غمرت الشمس الأرض بنورها، ومن علاوي الحلة استقلينا سيارة أخرى للوصول إلى منطقة الرحمانية حيث بيت شقيقتي الكبيرة الذي كنا نقصده .

أما سفرتي الثانية التي أعيها إلى بغداد، فكانت في شتاء سنة 1961م، وكنت بصحبة أهلي أيضا، وقصدنا بيت أولاد خالتي في البياع، ولم تكن البياع يومذاك سوى بيوتات قليلة في شارع عشرين، وتحيط به من كل الجهات أرض خالية من كل عمران، ولم يكن على يمين الطريق العام أي بناء .

وفي هذه السفرة استوقفتني مشاهدتان كانتا غريبتين عليّ، فقد ذهبت مساء مع ابن خالتي الصغير وكان يكبرني بعامين لشراء القيمر من محل عطار في بداية شارع عشرين، وقد وزن البائع له كمية القيمر !! ولم أعتد في مدينتي المسيب حينذاك مثل هاتين الحالتين، فالقيمر يباع من قبل بائعات القيمر (المعيديات) في السوق أو نقصد بيوتهن في بعض الأحيان، وهو يوضع في أواني فخارية صغيرة سعرها ثلاثون فلساً، ومن أراد أكثر من هذه الكمية حمل معه ماعونا من المعدن أو الفرفوري، وضوعفت له الكمية والسعر، ولا دخل للوزن به !!

ومن أوليات سفراتي إلى بغداد مرافقتي لشقيقتي الكبيرة إلى بيتها في بغداد الجديدة، وكان ذلك في صيف سنة 1965م، وهناك تعرفت إلى صديق من عمري اسمه (كاظم)، وكان لاعبا ماهرا في كرة القدم، واصطحبني إلى مكتبة في المنطقة ؛ اقتنيت منها بعض الصحف لولعي بقراءتها، ولعل أهم ما في هذه السفرة اكتشافي لمطبوع سنوي يدعى (المفكرة)، يقوم صاحبها بتسجيل حوادثه اليومية فيها كي لا يطويها النسيان، ومنذ تلك السنة صارت حريصا على شراء مفكرة خاصة لي أدون فيها أهم ذكرياتي يوما بيوم من غير انقطاع، وقد استغرقت سفرتي هذه بضعة أيام أعدت بعدها إلى مدينة المسيب .

أما أول سفرة ذهبت فيها لوحدي إلى بغداد فقد كانت في مطلع سنة 1966م، لقضاء عطلة عيد الفطر المبارك هناك، وكنت يومها في الصف السادس الابتدائي، وقد قصدت بيت أولاد خالتي السابقين، وكانوا قد اشتروا قطعة أرض في منطقة الآثورين، وبنوا عليها بيتا لهم على طراز حديث .

استقليت سيارة أجرة عامة من كراج المسيب، وكانت من نوع مرسيدس تسع ثمانية عشر راكبا وتدعى (أم ثمنطعش)، وأجرتها سبعون فلسا، ونزلت في مفترق الدورة، حيث توجد نقطة سيطرة عسكرية للتفتيش، وسرت باتجاه شارع الدورة، واستقليت ثانية سيارة أجرة عامة متوسطة الحجم تدعى (كارتون)، وعبرت جسر المهدية، ونزلت أمام الشارع الثالث على اليمين حيث يقع بيت أولاد خالتي في عمقه، وتدعى المنطقة بـ (الآثوريين)، ولم يكن البناء قد شملها جميعا، فقد كانت هناك أراض واسعة وهي الفارغة، ولكني لاحظت حركة بناء متزايدة فيها، كما أن الغالبية العظمى من سكان المنطقة كانت من المسيحيين، وقد تعرفت على عدد منهم وشاركتهم اللعب .

قضيت أياما سعيدة في اللعب والتجوال مع صغار الأسرة وأقاربهم، وذهبنا في اليوم الأول سيرا على الأقدام إلى سينما البياع لمشاهدة أحد الأفلام السينمائية، وعدنا في باص المصلحة، وذهبنا في اليوم التالي إلى معرض السكك في منطقة علاوي الحلة، وكان بمثابة مدينة ألعاب جميلة في تنوع ما فيه، فهناك القطار الصغير، وعروض الساحر وألعاب أخرى وباعة المأكولات، وكان باص مصلحة نقل الركاب واسطة نقلنا من الدورة إلى منطقة العلاوي أو عودتنا من البياع، ورقم خطه (31)، ومساره من الدورة إلى ساحة جمال عبد الناصر (الملك فيصل) في الصالحية .

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

 

في المثقف اليوم