أقلام حرة

سلطة خطاب الواقعية في ديوان: حين ساعدنا الحرب لتعبر للمغتربة ميس الريم قرفول

ahmad alshekhawiلحدّ الآن ومذ نشأته الأولى، وضمن حدود رؤية شمولية له، راوح الأدب العربي بين عارضتين بارزتين ذروة في الندية والتضاد، وإذا ما خصصنا جنس الشعر بالقول، وجدناه إمّا واقعية متمرّدة على المدارس الرومانسية، أو العكس، تماما وكمالا،حِلْمية سانحة لشطحات المخيال ومتيحة لمسافات التنفس والتحرر الذهني، كضرب من بعث لما يعتقد أنّه تمّ تخطيه وحصل اجتراره وتجاوزه، وهو تعاقب لاهث ومحموم وممتد في زمن الولادات الجديد لمعاناة غير مسبوقة وإن تشابهت أو تماهت مع ظلال الذاكرة،و مناوبة - إذا شئنا - مسايرة لخطى عبورنا الإنساني والوجودي ككل.

بما العملية في أفضل حالاتها، صياغات للنفور من عزلة قاهرة باتجاهات تجريبية ضامنة للتكاملات والامتداد.

تتعالى الأصوات الشعرية في راهننا ،من كلا الطّرفين، وإن كنت لا أستسيغ المفاضلات الإبداعية في نهوضها على ربط فعل البوح بفسيولوجية فاصلة بن ميسم النوعين،وتتصاعد هذه الأصوات أفقيا وعموديا، كي تنسج من تفاصيل الميداني واليومي،هلاميات كلامية على مقاس ما يتسربل به الانتماء من أكفان، ومرثاة وقيامات صغرى، حتّمت أخذ القسط الأوفر والحظ الأقصى من دماء المهج، قبل ما به تجود الأنامل مجابهة ومعارضة لأخطاء عالم بات يتجاوزنا بما يتنافى و خشوعنا الملائكي إذ آثر معظمنا، أن يرتمي أوغل ما يكون في جغرافية المتاهة المقنّعة ،محاولا عبثا،من خلالها، مواراة عبوره الشيطاني السّلبي المدمّر والدال على استذئاب تغطّيه صور الآدمية الزائفة.

والأكيد أنّ مثل هذه الأصوات التي هي في بداية مسار ما تمّت الإشارة إليه ،أو بالأحرى ،من حيث تموقعها في أرض تشكّل أولى ملامح الوعي الذاتي بنظير تلك تحدّيات تمنح الشعرية العربية ريادتها ومنزلتها العالمية اللائقة، هي، أي تلك المشاريع الكتابية، من الندرة بمكان، ومقلّة وتكاد تكون تحت سقف ما يترجم القران الأسطوري ما بين جرأة وسيمولوجية الطّرح القادر على تلبية أغراض الكتابة النابضة بها معلّقات التّغني بشتى معاني مناطحة الأنضج والأدنى من الاكتمال في بحبوحة الانتماء إلى شجرة الإنسانية كأولوية وشرط أساس لتجديد ومعاودة تطهير النوع البشري كأشدّ وأبلغ ما تتمّ زرع إيجابيته في رحم العالم بغية تحصيل هجعة كونية لصالح الإنسان وسائر ما ينشدّ إليه من عناصر والجة في دوامة إنتاج كهذا استقرار وفوقية .

1202 husan

من هنا وجبت الإشادة بالتجارب الحديثة المكرسة لبعض من وجوه هذا الطرح، على سبيل المثال لا الحصر، ديوان " حين ساعدنا الحرب على العبور" لمبدعته السورية ميس الرّيم قرنفول،الصادر حديثا عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر،دمشق/سوريا.

بحيث تطالعنا هذه الشاعرة الواعدة، عبر هذا المنجز الوارف بمجاورته لمعنى المفردة البسيطة العميقة في آن،بل وإقامتها فيه كثيرا من الأحيان، داخل إطار تبنّي القصيدة الومضة، المثقلة بالحمولة الهذيانية في انتصافها للإنسان المجروح في هويته والمطعون في انتمائه.

دفق تعبيري يغزل وبكثافة مشهدية الجنائزية، ويلوّن بياضات الحكي بنثريات قزحية تعكس عمق الرؤى في محاصرة الذات والآخر والوجود.

وهو استطلاع يقودنا إلى اقتراح الاقتباسات التالية، والتي تنهل من ذات الدلالة الدامغة بها العتبة الواسمة للمنجز في عمومه، الاستغراق في شعرية الذاكرة بأسلوب سلس إبرازا لضغوطات ذاتية الاغتراب في علائقها بإملاءات الحنين إلى الجذر والمنبت الذي مزّقته حرب طاحنة لم تك متوقعة بتاتا.

تقول ميس مغرّدة على غصن الطعنة:

[ وامتلأ صدرها بالدم

تنام قربي الآن

أنا أغفو

وهي تحفر الحلمَ بأسنانها].

..............

[ أشعر بالجوع لكني لم أعد أشعر بالروائح

وفي رأسي مسننات الحرب

إنه الضباب].

.................

[ كيف تمرّ في حلمي بهذه البساطة

في المرّة القادمة سأجعلك تتعثر بالوسادة حتّى

تقع على وجهي].

..................

[كلّ طريق حبّ يوصل إلى عينيك مرّ بالمدن

الخرِبة

عيناك تشبهان بيتا مهجورا في حمص

دمعتك مهاجر

احتضانك ليس صنعةً من قصب].

...................

[ تركت طاسات الدم تلوّن عينيّ وتزيد اسودادهما

كالأخضر في الليل يحترق ويحترق

البارحة اختلّيتُ

كما العالم وتأرجحتُ

كما الأغنية].

...................

[هل ترى تلك الشجرة

كان فمها

عصفوراً

مفتوحا ومرتعشاً لم يلمسه أحد

وطار].

...................

[ في بيوتنا القديمة

كانوا يطحنوننا مع العاطفة

كم يُطحنُ حبُّ السّماق

لهذا ترانا حُمْرا متورّدين].

....................

[ في أيام العزاء شربنا الكثير من القهوة المرّة

كانت لذيذة

وبعد سبعة أيام أغلقنا المظلات لموسم قادم

وهاجرنا.].

.......................

[وبات يثقب الغيوم

كي ينزل الزبدّ خناجر

والصّرخات نشواتُ أقحوان غاف

والنهرُ

طريقه الذي لم يسلكه

مثل المرآة].

....................

[ أكتب عن الهشاشة

أكتب ولا تسمعني صوتك].

.................

[ قال لي أبي:

يا نجمة

أطفأني

ورحل].

تأسيسا على ما تقدّم، يمكننا الجزم بأنّا إزاء تجربة ناضجة تعكس مدى جاهزية واستعداد الذات الإبداعية للتجاوب والتصالح في شموليته.

بالتالي فهي ذات منسجمة مع بقية المكونات ،وهو وعي إنما ينبثق من خلفية اتقاد حس الانتماء و الوفاء النادر للقصيدة حدّ الارتقاء بها فوق شتّى تحديات الآني وإكراهاته.

إنثيالات هامسة ومدغدغة بتجليات اغتراب الذات،ومشرعة على آفاق ابتكار المعاني الزئبقية وفق ثقافة توبّخ هذا العالم الممعن في تشويه آدميتنا وخلع سحنة الطفولة والملائكية عن المكان الأصل الذي سجّل أولى صرخاتنا في هذه الحياة.

تنبض العتبة بدوال عدّة ،في اعتقادي ،لربما اختزلت جلّ أغراض الأضمومة ،وألهمتنا في عصارة البعض من جوانبها الرّسالية في انخطافها بمحطات شرف الانتساب إلى شجرة الإنسانية ،ومن ثم الانسكاب اللاواعي مع انسيابية تياراتها وإن هبّت ضدا ومُراوَغة،قصد ما يشبه مزاولة طقوس الفلكلورية المتغزّلة وإن ثرثرة ودندنة حتّى،  بالمحذوف أو المفقود من إنسانيتنا بحدّ ذاتها.

ففي النهاية ،يوضع الكل في قفص الاتهام، لا أحد بريء قد يصدق عليه دم يوسف، الدم هاهنا من الجميع وللجميع أيضا،مسلّما بشكل أو بآخر لما جنته أيدينا نحن البشر لا أكثر.

ثمّة تلميح إلى ما يجعل الكلّ متورّطا/حين ساعدنا الحرب لتعبر،وهي دلالة تنهض على استعارة كلّية تستقبح خطيئة المشترك واشتراكية الخطيئة.

إنّ صناع هذا الدمار وكل هذا الموت ،انتهاء،هم من طينتنا،هؤلاء المارقين من صلبنا مهما تبرئنا منهم،مع كامل الأسف.

ولا يفوت شاعرتنا ،حتّى وهي في غمرة سردية دامية تكشف الستار عن مشاهد الجنائزية والدمار، لا يفوتها أن تضغط أزرار الحبّ بكلّ تلويناته،وتلوك تيمة العاطفي في أكثر من مفصل حساس، كأنما تومئ إلى مكمن الخلل.

إنه انفلات ممسوس بمزيج وخلطة من  أحاسيس الغربة والعزلة والانتماء، وانكفاء شعري على الخطاب الواقعي إذ يقلّب الحرف والمعنى ضمن اشتراطات القصيدة الوامضة الناطقة بحرفية ،والمغرقة في نهج التكثيفات والمفارقات.

كون البشر لمّا غيّبوا عن عالمهم، مثل هذا المنقب النبيل، إحساسا وسلوكا، وغالبا ما اصطنعوه ،نالوا بعض ما يستحقون وأكثر.

وختاما، لا مراء في القول أنّا ونحن إزاء هذه الوليمة الشعرية الدّسمة المستفزّة بعوالمها التي تنهش الأنساق وتخترقها إلى ما يعرّي ويبرز بالتمام، عروبتنا بل وإنسانيتنا النازفة، إنّما نتنفّس لحظات لذة القول الشعري،ونعيش ملء كؤوس الثمالة،غواية الحكي الجنائزي المعتّق أحيانا بعثرات وجدانية مولّدة لرعشة التلقّي الحقيقية، وفق أسلوبية تجمع ما بين بساطة المفردة وعمقها،مثلما تضيء خارطة ما بعد صدى الصوت الأنوثيّ المخملي الموجوع والمنصت لنكزات الهشّ والمعطّل والعابر في علائقه بالغائية التي من المفترض أن تفجّرها الممارسة الإبداعية في الذات والغيرية والعالم.

 

احمد الشيخاوي / شاعر وناقد من المغرب 

    

 

في المثقف اليوم