أقلام حرة

القوة والهُوة!! (4)

sadiq alsamaraiثاني عشر: القوة والبشر!!

للقوة تاثير كبير على السلوك البشري، وهي المعيار الذي يتحكم بالتفاعلات الحاصلة فوق الأرض، ذلك أن كل تفاعل يتحرك بضعط القوة، وهي ذات تأثير متسيّد على السلوك الفردي والجمعي.

والقوة قد تكون مادية وعاطفية وفكرية وعقائدية وغيرها من أنواع وعوامل ومولدات القوة التي تحقق السلوك المعبر عنها.

والقوة بطبيعتها تسعى إلى نأكيد دورها وسطوتها وعدوانيتها ولا تخلو قوة من روح ونوازع العدوان مهما إدّعت، فجوهر إرادة القوة العدوان، بمعنى فرض السيطرة وتجريد الآخر مما يمتلكه ويتمتع به.

والبشر بصورة عامة يسعى للحصول على القوة، لكي يتمكن من تأكيد عدوانيته ورغباته ونوازعه في البطش والفتك بالآخر، ولهذا فأن القوة الكبيرة دائما تعتدي وتأخذ ما عند الآخرين، وتسوّغ سلوكها بما يتوفر عندها من أدوات ومهارات التحريف والخداع.

فتكون هذه العناصر مرافقة للسلوك العدواني دوما، وكثيرا ما تجعل فريستها تتمرغ في وابل الأكاذيب والأضاليل، والتفاعلات السلبية المؤدية إلى الإضعاف والإنهاك وتحوبل الهدف إلى فريسة سهلة، وإلى ضحية تتلذذ بمصيرها المأساوي وتسعى إليه بما تبقّى عندها من الطاقات.

وفي خضم التواصل البشري المطلق فوق الأرض، فأن القوة المتمكنة تفرض إرادتها حتما، وهذا ما قامت به جميع القوى عبر العصور، لكن العلة الجوهرية تكمن في الهدف الذي لا يعرف آليات ومهارات إستجماع طاقاته وقِواه، لتأكيد دوره وتفاعله السليم مع هذه القدرات الأرضية الهائلة الساعية لإمتلاكه، وتبديد قدراته وتحويله إلى قوة فاعلة من أجلها.

وهذا يتأكد في العديد من الشعوب والمجتمعات التي تمتلك ثروات طبيعية وقدرات حضارية، لكنها تبعثرها وتعجز عن توظيفها وإستثمارها في الصيرورة الأفضل والأقوى، وإنما مضت في إندفاعها نحو التداعي والخسران.

إن علاقة القوة بالبشر لم تتغير على مر الأزمان، وهي ذات قانون ثابت ومعادلة متوازنة واضحة تتغير عناصر تفاعلها لكن نتائجها تبقى ذات النتائج، وإنها تتبادل الأدوار وتحقق الصعود والنزول والدوران في ذات المكان الدوّار، الذي يطحن الحالات ويعيد تصنيعها وتوظيفها وفقا للمستجدات والتحولات الناجمة عن التفاعلات الظاهرة والخفية.

ومن هنا فأن العقل البشري الذي هو بحد ذاته قوة جوهرية وطاقة مغيرة ومؤثرة، إنما يسعى بكل إمكاناته للحفاظ على إعتدال القوة ولجم جماحها لكنه لا يستطيع ذلك إلى الأبد، وإنما لا بد من سقوطه وإنهياره ذات لحظة فتنفلت القوة وتفعل ما تريده وتسعى إليه.

والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة ومتعددة، وقد قدم القرن العشرون الكثير منها، وها نحن في القرن الجديد والصراع الحاصل هو ما بين القوة والعقل، ومن الواضح أن القوة ستنتصر على العقل ذات يوم فتقع الواقعة وما أدراك ما هي؟!

ثالث عشر: تدحرج القِوى!!

القرن الجديد هو قرن تدحرج القوى وتصادمها الفظيع، فبعد أن تنامت العديد من القوى في القرن العشرين وغابت، وكانت أطولها عمرا قوة الإتحاد السوفياتي التي إستمرت لسبعة عقود.

وقد أثبت لنا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أن اية قوة أرضية لا يمكنها أن تمتلك عمرا أكثر من سبعة عقود، بل أن جميعها ستكون مأسورة ببضعة عقود وحسب.

وذلك لأن عوامل الزمن المعاصر تختلف تماما عن سابق الأزمان، حيث حققت الإتصالات ثورة تفاعلية غير مسبوقة، مما أدى إلى تحقيق تغيرات متسارعة وتفاعلات متواكبة، وتصاعدات فائقة تصل ذروتها بسرعة غير معهودة.

ومعنى ذلك أن القرن الحالي سيشهد تصاعد قوى وإنفجارها كأنها البالونات المحلقة في الفضاء، وهكذا فنحن نرى العديد من التصاعدات والتفاعلات الناهضة الساعية للتعبير عن دورها وتأثيرها، لكنها تحمل أسباب وقدرات فنائها معها، ولهذا فأن القرن الحالي سيعيش اضطرابات متلاحقة وغياب قِوى عديدة وظهور أخرى على مسرح الأحداث.

وسيتم فيه إبتلاع أوطان وتذويبها وسيادة مجتمعات وتمكنها، وسيكون ابتلاع الشعوب أمرا عاديا، لأن الوجود البشري بحاجة إلى إعادة صناعة ذاته وموضوعه، ويكون ذلك بإفتراس مجتمعات أخرى وهضمها وتحرير طاقاتها.

وهذا ما يحصل في العراق، حيث يتم هضمه من قبل القوى المفترسة والتمتع بطاقاته من أجل المحافظة على القوة والإقتدار، وبهذا ترى العديد من القوى الشرسة التي تأكله بقسوة وعنفوان ولا تأبه بأبنائه، لأنهم في حساباتها الإفتراسية مصادر طاقات تحتاجها ولا بد من إفتراسهم للحصول عليها.

والإفتراس المعاصر يمتلك مهارات وقدرات وأساليب غير مطروقة، ويرفع شعارات مخادعة تضليلية لكي يحصل غلى ما يريد، ومن أهم أساليبه الديمقراطية والدين، ولهذا نراهما فاعلان فوق أرض العراق.

فبواسطة الديمقراطية والدين يمكن إفتراس الشعوب وتحرير طاقاتها وإمتلاكها وإمتهانها ومصادرة حرياتها وسلب ثرواتها وتقرير مصيرها.

ووفقا لهذه الأساليب الفتاكة، فأن الدين والديمقراطية سيكون لهما الدور الأساسي في مواصلة إفتراس الأوطان، وهذا يمكنه أن ينطبق على أي مجتمع آخر موضوع على قائمة الفرائس المنتظرة ووفقا للجدول الزمني المضبوط.

ويبدو أن منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأكثر تأهيلا لهذا التفاعل التدميري والخراب الحضاري المطلوب، وفي هذا جوهر ماساة دامية لا تنقطع ولن يتوقف أوّارها.

رابع عشر: معادلة القِوى الإقليمية!!

مرتكز القوة العربية يتحدد في ثلاثة دول هي العراق وسوريا ومصر، هذه الدول الركيزة الأساسية لقدرة العرب، وأي إضعاف لها يتسبب بإنهيار القِدر العربي وإنسكاب ما فيه.

وبإنهيار العراق كدولة وجيش وقوة ذات قيمة إقليمية وكذلك سوريا، إندلع ما في العرب وإنسكب فوق رمال وجودهم المتصحر، وبقيت مصر تريد الحفاظ على إستقامتها وثبات عمودها، لكن أوتاد الخيمة العربية تقطعت، والعمودان الآخران قد إنكسرا.

وهكذا أخذت الرياح والعواصف تعبث بالوجود العربي، وإجتاحته أعاصير المصالح والتطلعات وتصفية الحسابات، وخرجت من جحورها الآفات والوحوش المفترسة، التي تريد الإنقضاض على فرائسها بلا هوادة.

ووجد العرب أنفسهم أمام إرادة المحق الحضاري، التي إستهدفت تأريخهم ولغتهم وهويتهم ودينهم ، فالآثار مستهدفة ورموز وجودهم الروحي والفكري يتم تدميرها بإستخدام أعتى الأسلحة وأدوات التدمير الشامل، كما أن الفساد أصبح دستورا، وإنتشرت المحسوبية وعمّ الفقر والتهجير والقتل والسلب والنهب والخطف، برعاية الحكومات المأسورة في زنزانات مناطقها، والمحاطة بذوي المصالح المكشرة أنيابهم والمندلعة ألسنتهم، والذين يسيل لعابهم على مصالحهم المُعلنة والخفية.

وصار التدخل السافر أمرا مقبولا، والرضوخ لمشاريع الآخرين سياسة مطلوبة، وما عاد الوجود إلا كارتونيا، ويُدار بمن يسمون أنفسهم بالساسة والقادة، وكأنهم يؤدون أدوارهم الدرامية الدامية، وبعد أن يتم ذلك يتساقطون من على خشبة مسرح الويلات، ويوضعون في أكياس قمامة سوء المصير.

ولهذا فالحديث عن إسترداد العافية العربية مع إغفال تقوية سوريا والعراق، إنما نوع من الهذيان وإضطراب تفكير، وضحك على الذقون لغايات في نفس يعقوب.

وفي هذا الخضم الإنهياري، لا يمكن الحديث عن القضاء على التطرف والإرهاب، وأعمدة القوة العربية ساقطة أرضا، أو أنها في مرحلة التهاوي والإنهيار.

فالإرهاب يمكن القضاء عليه بإعادة قوة العراق وسوريا، وترسيخ قيم الدستور الوطني الصالح والقانون الراجح، والإستثمار الفعال في الثروات والإنسان، وبإبعاد الأحزاب الدينية المتطرفة المنغلقة عن السياسة، ومساعدة أبناء البلاد المتنورين الكفوئين على القيام بدورهم الوطني، ووضع الأسس والبنى التحتية لثقافات وطنية معاصرة، وبالتأكيد على التعليم وبناء المدارس اللائقة بالإنسان.

فالدول كافة تسعى لتحقيق مصالحها وإمتلاك الطاقة، وكما هو معروف وعلى مر العصور، والإفتراس يعني إمتلاك طاقة الآخرين وتوظيفها لصالح إرادة المُفترس، ولهذا جرت الحروب وتجري أبدا.

وتحول العرب إلى فريسة، يتم هضمها وتسخير طاقاتها وفقا لمقتضيات مصالح الدول القادرة على إفتراسها، وتلعب دول الجوار شرقا وشمالا دورا سلبيا في هذا الخصوص، لأن مصالحها الوطنية قد أعمتها، وجعلتها تتناسى الدور الإنساني وحقوق الجيرة والمصالح المشتركة، والتفاعل التأريخي الحضاري العقائدي على مرّ العصور.

وفي الواقع المحفوف بالمخاطر ، فتِحت الأبواب وأشرِعَتْ المنافذ للقادمين من كل حدب وصوب، حتى تحولت الأرض العربية إلى ميدان إفتراس شرس، لا يعرف إلا الخراب والدمار وسفك الدماء.

وتحولت ثروات النفط إلى دخان، والبشر إلى سجير، وما عادت الأوطان إلا مواقد متأججة، وكأن الوطن أصبح تنورا.

تلك مصيبة الوجود العربي وأوجاعه المتنامية، التي تسعى لتحويله إلى رماد تتناهبه الرياح والأعاصير العدوانية الهابة عليه بلا هدوء ولا إنقطاع.

وهذا يفسر سقوط العراق في مخالب الحروب منذ أكثر من ثلاثة عقود، وإبتداء ولوج الدول العربية في مسيرة حمام الدم وجحيم النيران، التي ستبسط حريقها على عقود القرن الحادي والعشرين القادمة، وهي المقدمة لويلات الضياع الأبيد، أو لمحق العرب عن بكرة ابيهم!!

فهل سيتحقق الخروج من قبضة اليأس ومخالب القنوط وحُفر الضياع؟!!!

تلك قراءة نفسية إدراكية لواقع عربي يئن من الجراح التي يتم مداواتها بالجراح، في معتركات ذات دوائر مفرغة لا تعرف التوقف والتعلم مما جرى فوق الثرى المضمخ بالنجيع، والقابض على أحلام الأجيال المحرومة من التفكير ببعض حلم وبصيص تطلع إلى أمام.

الثرى الذي تئن تحته أحلام العرب أجمعين، فالحلم العربي ممنوع عليه أن يمشي على قدمين، ويشق طريقه في سوح الغاب الحضاري المحتدم الصراعات والصولات.

لكن وعي القِوى يساهم في ولادة القوة الجامعة المانعة، التي تغرس راية الحلم العربي على سمة الرواسي التفاعلية الحضارية المعاصرة، فالشمس العربية ساطعة ولا يمكن حجب أنوارها بغربال أوهام وأضاليل وصراعات ذات مآل!!

فالأمة أقوى من أعتى أعاصير العدوان، وتكنز إرادة أكون المتفوقة على أفياض كان!!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم