أقلام حرة

التراث والهوية والذاكرة

أحد المعاني الشائعة لمفهوم التراث هو أنه الذاكرة العامة للفرد والمجتمع، أو بمعني آخر هو الهوية التي تميز أمة أو شعب ما عن غيره من الأمم و الشعوب، فالأهرامات مثلا تعتبر نقطة مركزية في هوية مصر الحضارية، كما أن تنوع الهويات يُغني الثقافة والحضارة الإنسانية بمفهومها الشامل، بل إن الحضارات تعتمد على التنوع الثقافي .

علي هذا يحتوي التراث الإنساني على جانبين رئيسيين هما: الملموس المادي مما أنتجه السابقون من مبان وأدوات ومدن وملابس وغير ذلك، وغير الملموس من معتقدات وعادات ولغات وتقاليد .

والتراث كمخزون ثقافي واجتماعي يعتبر مصدرا تربويا علميا وفنيا، خاصة وأن تراكم الخبرات يكون الحضارة وتراكم المعلومات يشكل الذاكرة، وهذه الذاكرة بدورها تمكننا من فهم العالم بأن نربط بين خبرتنا الراهنة ومعارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل.ولهذه الذاكرة والتراث الثقافي (الذي ننادي بالحفاظ عليه) علاقة طردية مع الإبداع لدى الأفراد والشعوب.

وعادة ما يُطرح السؤال التالي وفقا للاعتبارات الحضارية والثقافية : لماذا يستطيع بعض الأفراد والمجتمعات أن يقدموا أفكارا جديدة أو استعمالات إبداعية للأشياء، ولا يستطيع البعض الآخر أن يفعل الشيء نفسه؟

جزء غير يسير من الإجابة علي هذا السؤال يحدده الموروث الثقافي أو الحضاري للفرد و المجتمع .

ولذلك فإن الحفاظ على التراث كمادة إستراتيجية ودوره الاقتصادي في تطوير المجتمع المحلي، فالتراث الثقافي مادة إستراتيجية، أي أنها إذا فقدت فلن تتجدد مثلها مثل البترول، هذا لأن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة، ويعني كذلك إفقارا اقتصاديا حقيقيا لذلك البلد الذي يفقده، إذ أن الذاكرة هي التي تساعد على اتخاذ القرار، فالإنسان الفاقد لذاكرته لا يستطيع أن يستدل على باب بيته، فكيف يصنع ويطور ذاته؟وهذا ينطبق على الفرد وعلى المجتمع علي حد سواء . ولذلك كان نداء اليونسكو والمواثيق العالمية الصادرة عن المجلس العالمي للمعالم والمواقع(ICOMOS)

International Council on Monuments and Sites بأن تُحفظ الآثار في مواقعها وفي بلادها.

ويجدر بنا هنا التذكير بما يقوم بعمله المستعمرون بشكل عام في طمس الشواهد الحضارية للشعوب المستعمرة ومحاولة سلبها وتصديرها بطرق غير مشروعة إلى بلادهم ومن إيداعها في متاحف بلادهم إن لم يقوموا بتدميرها، والسبب الرئيسي لهذه العملية هو طمس الهوية وضياع الذاكرة لتشعر بعد ذلك الشعوب المستعمرة بأنها في حاجة إلىمن يتخذ القرارات لها ويسوس أمرها من خارجها أي من قبل المستعمر.

أما من الجانب الاقتصادي، فلا شك أن دور التراث الثقافي في جلب السياح إلي منطقتنا هو دور مهم .فالسياحة في منطقتنا غالبا هي السياحة الثقافية .والتراث الثقافي هو الجانب الحقيقي الذي يبحث عنه الزائر والسائح في بلداننا، فإذا ما دمر أو نُهب في أي بلد عربي فسوف يقل عدد الزوار والسائحين، وتنحسر بذلك صناعة السياحة ويتقلص دخلها.

1- أهمية دور المجتمع في الحفاظ على تراثه الثقافي   

إن ملكية التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، ولأن الدولة أو المجتمع هو صاحب ذلك التراث الثقافي والحارس عليه فمن واجبه حمايته والمحافظة عليه قبل الآخرين والدفاع عنه إذا لزم الأمر. وعلى مر العصور كان الاعتداء على التراث الثقافي وسيبقى مادام الإنسان يحارب أخاه الإنسان الذي صنع ذلك التراث.وعلى مر العصور تعمد الغازي والمستعمر تدمير الميراث الثقافي للبلد المهزوم لعزل الشعوب المستعمرة عن ماضيها وعن ارتباطها بالأرض وعن انتمائها وهويتها الوطنية وحتى يحدث الاتزان وينتصر المهزوم كان لابد للشعوب المستعمرَة من أن تستمد قوتها من تراثها الثقافي. ودائما يكون هدف الغازي طمس الهوية الثقافية للمغزى والمهزوم الذي يريد أن يحافظ عليها بكل ما أوتي من قوة .

فمثلا تكاتفت جموع المواطنين في روما يدافعون ويقفون في وجه المستعمر الفرنسي أثناء سيطرته على مدينة روما في أواخر القرن التاسع عشر أبان حكم نابليون كي ينقذوا المسلات الأربع (أصولها مصرية فرعونية) الموجودة في مدينتهم ويبذلون في سبيل ذلك حياتهم حتى نجحوا في ذلك، ولا تزال تلك المسلات ماثلة في أجمل ساحات روما وإحداها في ساحة الفاتيكان أشهر الساحات على المستوى العالمي.

وكذلك فإن الفرنسيين بدورهم مثل باقي شعوب أوروبا في فترة الحرب العالمية الأولى والثانية حافظوا على تراثهم الثقافي، وبذلوا في ذلك كل ما استطاعوا إليه سبيلا.وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة شكلت لجان متخصصة من مهندسين وأثريين قاموا بعملية توثيق للمباني التاريخية والأثرية .وبدأوا بعمليات الترميم ولقد استفادوا من تجربتهم في الحرب العالمية الأولى . فأدى ذلك إلى القيام بأعمال الحماية والمحافظة قبل وأثناء المعارك فمن الإجراءات الوقائية خزنت نحو 45 ألف قطعة أثرية من القائمة المسجلة للتراث الفرنسي في مكان آمن في بداية الحرب وإبان الحرب، فكان هناك جهاز يعمل على الحماية والمحافظة لذلك قاموا بتوثيق المباني هندسيا حتى إذا ما دُمرت تلك المباني كان بالإمكان ترميمها بشكل صحيح.

وكذلك بذل الشعب البريطاني جهودا كبيرة إبان الحرب العالمية لحماية تراثه فقد نقل المتطوعون المقتنيات الأثرية والتراثية المنقولة إلى مناطق بعيدة عن المدن في الكهوف وتحت الأغطية لقد نقلوا شبابيك الكنائس وأثاثها والمباني التقليدية، كما نقلوا التماثيل والتحف الفنية من تاريخية وأثرية من المتاحف والمباني. ومن المواقع الأثرية، أما التماثيل الكبيرة والمعالم المهمة فقد غطوها بالتراب والطوب حتى لا يدمرها القصف، كما تم رفع وتوثيق المعالم المهمة الموجودة في المدن الانجليزية .

2- التراث الثقافي ودوره في بناء الهوية الوطنية        

من دون شك تظهر أهمية التراث الثقافي ودوره بوضوح أكثر في صنع الوحدة الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية علي سبيل المثال، حيث أنها لا تمتلك تراثا ثقافيا كبيرا كما هي الحال في عالمنا العربي .ومع ذلك قامت بجهود كبيرة في توفير مصادر ثقافية، وشيدت متاحف في كل قرية ومدينة . كنت استغرب أن يكون هناك متحف خاص بإكسسوارات وكاميرات واسكر يبت فيلم Citizen Cane الذي مثل البطولة فيه "ارسون ويلز " إلا أنه جزء من الميراث الثقافي كما هو الحال في هوليوود. هذا ما يجعلهم يقتنون وينهبون التحف الأثرية من دول العالم.يشترون البعض ويأخذون البعض هدايا والبعض الآخر يتم سرقته.

هذا عن دور التراث الثقافي في بناء الهوية الوطنية والعرب يخوضون الآن حربا من حروب الجيل الرابع وهي حرب شرسة دموية مع هؤلاء الدواعش.

3- من أين أتي هؤلاء، من صنعهم ؟

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يحدث ما يحدث في العراق وسوريا تحديدا؟ ولماذا تقوم داعش بنهب وسرقة وتحطيم الآثار التي عاشت لآلاف السنين؟ هل داعش أكثر إيمانا، كما كانت طالبان وهي تكسر تمثالي بوذا بالمدفعية في باميان ؟ كلهم يشربون من نفس الكأس سلفية جهادية داعشية، أكان المسمى سلفيه جهادية أم سلفية غير جهادية؟! الكل واحد، الكل عنيف ومدمر، ويتعذر بأسباب عقلية ونقليه يفسرونها حسب أهوائهم.

فالعراق مهد الحضارة الإنسانية العريق السومرية والبابلية والأشورية العربية الإسلامية، وسوريا ذات التراث الثقافي العريق أيضا حيث ابيلا وغيرها من مدن سورية العريق، دمشق من أقدم مدن العالم قبل الإغريق وغيرهم، أول مؤسسة تمثيلية في العالم أي أول برلمان قبل ما يزيد عن 4000 سنة، فهي بلد الأبجدية الأولى الذي فك رموز الحرف وعرف نظام الكتابة واحدة من أولى الشرائع في العالم، وكانت مسلة حمورابي الشهيرة، ولا تقل سوريا روعة عن العراق من حيث الأصالة وتجذر الحضارة فضلا عن أنها غنية بآثار الحضارة الهيلينية والهلينستية والرومانية قبل الإسلام .

الواقع أن عمليات تهريب الآثار وتجارتها واحدة من أخطر الظواهر التي يواجهها المجتمع الدولي، وتأتي هذه الجريمة المنظمة بالدرجة الثالثة بعد جرائم تهريب السلاح والمخدرات، وفي الأعمال غير المشروعة التي تقوم بها عصابات وجهات مريبة وبعضها يذهب لتغذية الإرهاب وهو ما تقوم به د اعش وأخواتها في العراق وسوريا .

الخلاصة هي – في نظري - صراع وجود، هم يريدون محونا من الوجود، محو ذاكرة هذه الأمة والتي هي ضمن مؤامرة أو مخطط تقسيم المنطقة.. فمتى تهاجم داعش إسرائيل؟ الإجابة حسب مقولة أحد الظرفاء لو أسلمت اسرائيل. داعش تحارب المسلمين قبل أن تكون حربا على غير المسلمين.

 

بقلم: عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم