أقلام حرة

الإسلام بين الثورة والثؤرة!!

صادق السامرائيالإسلام منذ إنطلاقته الأولى ثورة بكل ما تعنيه الكلمة وتدل عليه من سلوكيات وأفعال ورؤى وتصورات.

فالنبي الكريم كان ثائرا وأصحابه معه كانوا من الثوار المنورين بأفكار ذات آفاق كونية مطلقة.

وثورة الإسلام عالمية الطباع والتوجهات، وشارك في قدحتها الأولى أناس من عدة أجناس، فلم تكن ثورة عربية بحتة وإنما إنسانية، ومتوجهة إلى الناس كافة.

والذين ثاروا بقيادة النبي، تنوعت طبقاتهم فمنهم الفقراء المعدمون ومنهم الأثرياء المترفون، وقد تمكن قائدها بشخصيته وعبقريته أن يجمع حالات لا يمكن وضعها في وعاء واحد، ولهذا إختلط أثرياء القوم مع معدميهم، وصار العبد حرا ويجالس سيدا لا يتميز عنه إلا بالتقوى.

ولا يُعرف الكثير عن حياة النبي منذ زواجه بخديجة في سن الخامسة والعشرين وحتى إعلان النبوة، لكن كان له أصحاب من الأثرياء كأبي بكر وعثمان وغيرهم، وحوله جمع من الفقراء الذين يؤمنون بما يقوله ويأتي به.

وهذا الخليط الغير متجانس ثار على ثوابت قريشية وتحدى أباطرة مكة وسادتها وأعرافها ونظامها الإقتصادي، وأعلن أن على الجميع أن يدخلوا في الدين الجديد، الذي يدعو إلى العدل والمساواة والأخوة والرحمة والتعامل بالمُثل الإنسانية الرفيعة.

والعجيب في هذه الثورة أنها لم تحطم النظام الإجتماعي بالكامل، وإنما أبقت على ثوابت رأتها ذات قيمة وفائدة لتنمية القوة ونشر الدين، فهي لم تدمر الذين ثارت عليهم وتفتك بهم برغم ما أصابها منهم وإنما حفظت لهم كرامتهم ودورهم.

وكان فتح مكة منعطف كبير وحاسم في مسيرة الثورة لأنها أبقت على النظام القائم في مكة، وكان نداء " مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" تأكيد على الحفاظ على القيادة والسيادة لأبي سفيان وآله، وإبقاء على الكينونة الفاعلة في مكة.

وبسبب ذلك فأن العديد من العبيد الذين تحرروا من قبضة الهيمنة في مكة وصاروا أحرار في الثورة، قد وجدوا أنفسهم أمام أسيادهم الذين تحرروا منهم، فالسيد قد إعتنق الإسلام، أو أشهر إسلامه ودفاعه عن الدين وحمل راية الثورة.

وهنا تحقق إضطراب كامن في العلاقة ما بين الثوار، ودخلت المسيرة الثورية في مأزق الإلتفاف عليها والتمكن منها.

أي أنها ثورة ثارت وأثّرت وغيّرت، لكنها بعد فتح مكة صارت أمام حالة جديدة خلاصتها، أن العديد من سادة مكة قد أخذوها على الحاضر، أو أنها جاءت تمشي إليهم بطوع نفسها، وكأنها عروس تُزف إليهم.

بمعنى أنها صارت لهم أو آلت إليهم بعد أن كانت عليهم، ولهذا مضى سادة قريش من مكة بأخذ زمام القيادة والإستثمار في الإمتداد الثوري، الذي يحقق مصالحهم ويعزز مجدهم ويزيدهم فخرا وثراءً.

مما دفع بهم إلى المشاركة القوية في مسيرة ما بعد فتح مكة، والإصرار على القيادة وخوض الحروب، وهذا ما فعله أبو سفيان وأولاده حتى إنتهى الأمر بأن تكون الشام بعهدة معاوية بن أبي سفيان واليا عليها لعشرين سنة بنى فيها، وأسس حكما وقوة أوصلته إلى تأسيس الدولة الأموية.

وفي هذا الصراع الذي نجم عن فتح مكة وما آلت إليه الأمور أثناءه برزت حالة التحولات من الثورة إلى الثؤرة، وبعد وفاة النبي الكريم تصاعد هذا المسار شيئا فشيئا حتى إنتهى إلى ما آلت إليه الأمور وكما هو معروف من الصراعات الدامية القاسية، والنزاعات على السلطة والمال وإندفاعات نحو الإنتقام والثأر، وإعادة العبيد إلى مواضعهم الإجتماعية مهما بلغوا من شأن في علوم الدين والجهاد ومهما بذلوه من تضحيات، لأن الأسياد الذين قامت الثورة ضدهم قد سادوا.

ويبدو أن الثورة قد إنتهت إلى ما تنتهي إليه أية ثورة أخرى، حيث يقوم بها المناضلون المجاهدون وحالما تبلغ ذروتها وتقترب من أهدافها يستحوذ عليها مَن لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

والإضطراب الذي ربما أصاب قراءة التأريخ العربي منذ إنطلاق الإسلام هو الخلط الحاصل ما بين الثورة والثؤرة، فالثوار حقيقيون والثؤوار يدّعون ما يؤمنون به ، لكنهم يحققون إرادتهم وأهدافهم الإنتقامية ويؤكدون سطوتهم وسلطتهم ويبررون ذلك بالدين أو بالتمسك بعنوانه.

ولا يُعرف لماذا لم يتخذ النبي الكريم إجراءً آخر غير ما إتخذه عند فتح مكة، لكن الوقائع المتراكمة تشير إلى بصيرة ثاقبة ورؤية مستقبلية واضحة.

فأبناء سفيان برغم ما يُكتب عنهم من سلبيات وما قاموا به من أخطاء وتجاوزات، فأن إنجازاتهم وفتوحاتهم لا يمكن طمسها، فهم الذين أسهموا بدولتهم بالوصول بالدين إلى أصقاع الدنيا البعيدة، وحققوا له مجدا في إسبانيا واقتحموا البحار ووصلوا إلى مجتمعات بعيدة.

وبرغم من أن دولتهم لم تدم إلا ما يقرب من قرن، لكنهم وضعوا الأسس الكفيلة بالإنطلاق إلى أقاصي الدنيا، وعبّدوا الإرادات وشحذوا النفوس وأوردوها التحدي والبلاء، فتواصلت دول إسلامية من بعدهم، حملت رايات الدين، وقد إجتهد مَن إجتهد وظلم مَن ظلم وفشل مَن فشل، ونجح مَن نجح، لكن الدين بقي حيا وفعالا ومؤثرا في مسيرة البشرية حتى اليوم، وهو يتمدد ويؤسس له وجودا في جميع الشعوب، فلا تخلو بقعة أرضية مهما كانت قصية من الإسلام، والبشرية اليوم تعرف الإسلام وتطلع على ثقافاته وتقرأ كتابه.

وكلها بقضيضها ونفيضها، أسباب وأحداث أسهمت في ديمومة الدين وإعلاء قيمه، ومهما تمادى العدوان عليه فأنه يزداد نصوعا وقوة ويبدي جوهره الأصيل واضحا كالشمس الساطعة.

ولهذا فأن التأريخ العربي بجاجة لقراءة موضوعية علمية ذات وعي سلوكي وفهم نفسي لكي تكون منصفة، إذ لا يُعقل أن يتواصل الدين بهذه القوة والحضور، ويتكرر القول بما لايقبله المنطق ويستوعبه السلوك، فقوانين السلوك البشري ونظريات وبديهيات النفس تتعارض مع الكثير جدا مما بُطرح ويُكتب عن التأريخ العربي الذي إنطلق من ربوع مكة والمدينة، وبطاقة بضعة قبائل عربية إختمرت فيها قدرات تغيير المسيرة التأريخية للبشرية جمعاء، فالذين زعزعوا أركان الوجود البشري ووضعوه على سكة رؤاهم لم يتجاوز عددهم الثلاثة مئة من المؤمنين المنورين بأمهات أفكار الكون والوجود.

وهكذا فأن الإسلام يبدو وكأنه يمشي بساقين هما الثورة والثؤرة، وكأنها معادلة حتمية وضرورية لإدامة قوة الدين، وإذكاء جذوة الثورة التي ترفض الظلم والإستعباد وتدعو إلى العزة والكرامة والحرية الواعية لكافة الناس .

فالثورة تلد ثؤرة والثؤرة تلد ثورة وهكذا دواليك، وهذه حقيقة فاعلة في مسيرة دين أبدي الطباع.

فهل سيعقلون ويتدبرون ويتفكرون ثمّ ينطقون ويكتبون؟!!

* الثؤرة: من الثأر، وأحيانا تُكتب : ثؤورة.

"شفيتُ به نفسي وأدركتُ ثؤرتي..."

"....إنهم قتلوا أباكَ وثأرهُ لم يُقتلِ"

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم