أقلام حرة

أيهما أفضل علاقة السعودية بأميركا أم علاقة إيران بأميركا؟

صائب خليلسؤال غريب اليس كذلك؟ فالجواب يبدو بديهياً تماما! لكننا نحتاج إلى مراجعة بديهياتنا بين الحين والآخر، ولا سبيل إلى ذلك سوى طرح “الأسئلة الغريبة”. وعند مراجعة البديهيات فأننا نحتاج لمراجعة التعريفات. فما هو تعريف "العلاقة الجيدة"؟ كيف نقيس "جودة" أو (بالمقابل) "سوء" علاقتنا بشخص أو بجهة ما؟

بما تقدمه تلك العلاقة لنا. بما يعنيه وجودها بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا. بتخيل حالنا ومقارنته بوجود العلاقة وبدونها. على هذا الأساس يمكن قياس جودة العلاقة وترتيبها من ممتازة ثم جيدة ثم معقولة ثم حيادية ثم سلبية ثم مؤذية ثم مؤذية جداً ثم خطرة.. الخ. كل ما هو إلى اليمين في هذه السلسلة، أفضل مما هو الى اليسار. فمن الواضح ان "الجيدة" أفضل من "المعقولة"، ويمكننا ان نقول أيضا أن "المؤذية" "أفضل" من "الخطرة"، بمعنى انها اقل ضرراً، فهي بالمقارنة: "أفضل".

إذا كانت العلاقة الجيدة هي التي تقدم لنا شيئا وتلعب دوراً إيجابيا في حياتنا، والسيئة هي التي تلعب دوراً سلبياً فيها، نستطيع بسهولة ان نرى أن علاقة أميركا بإيران سيئة. انها "مؤذية" بالنسبة لإيران. ولو اختفت اميركا لم تعد لها علاقة لها بإيران، لبدأت إيران باستغلال إمكانياتها الصناعية والعلمية بشكل سريع وانتعشت على كل الأصعدة، ولربما صارت اقوى دولة في المنطقة، أو في الأقل ثاني اقوى دولة، ولاستطاعت في نفس الوقت ان توفر لشعبها حياة أفضل بكثير.

إذن علاقة أميركا بإيران علاقة سلبية مؤذية تعيق تطورها وانتعاشها، ولا نقاش في ذلك. لكن ما هي العلاقة الأمريكية بالنسبة إلى السعودية كدولة وفق نفس هذا المقياس؟ إلى أين تسير تلك العلاقة بدولة السعودية؟ وما الذي ينتظر أن يحدث للسعودية لو أن اميركا اختفت من حياتها فجأة؟

يمكننا ان نميز خصلتين أساسيتين في العلاقة الأمريكية السعودية هما: الحفاظ على كرسي العائلة الحاكمة للسعودية، واستخدام ثروات السعودية لتمويل المشاريع الأمريكية والأهداف الأمريكية بما فيها العسكرية والاستراتيجية. هذا يعني أن علاقة السعودية إيجابية جداً من وجهة النظر الأمريكية. لكنها من وجهة النظر السعودية تعني أولا إبقاءها تحت حكم عائلة متخلفة، ملوكها لا يكادون يعرفون "فك الخط". وتعني ثانياً أن ثرواتها تستنضب لأهداف لا علاقة لها بمصلحة شعبها. وكلتا الخصلتان ليستا في صالح السعودية كدولة، بل هي شديدة الأذى لها!

ما الذي يتوقع ان يحدث للسعودية لو أن علاقتها انتهت فجأة بأميركا (ودون ان تحل محلها علاقة مماثلة بدولة أخرى)؟ من المتوقع أن يقوم الشعب السعودي بإزالة هذه العائلة المتخلفة، وربما ينتخب حكامه بنفسه، أو على الأقل تكون له فرصة أكبر بكثير ليفعل ذلك، وبالتالي يخطو خطوة هائلة الى الأمام، لا يمكن حتى ان يحلم بها اليوم. وإن نجح في ذلك ووجه ثروته الهائلة لبناء بلده، فسوف يصبح قوة عظيمة حقاً يشار لها بالبنان خلال عقد أو عقدين من السنين! وحتى إن لم يتمكن الشعب من التخلص من حكامه المتخلفين، فان هؤلاء لن يكونوا بحاجة إلى تبذير ثروة بلدهم على مشاريع توجهها دولة اخرى تهيمن عليهم، مثل صرفها للتآمر على دولة تريد اميركا إسقاطها، بخفض سعر النفط من خلال زيادة مجنونة في استخراجه مثلاً، أو كسب الكراهية والاحتقار من شعبها والعداء من الشعوب المحيطة بها نتيجة الذيلية التامة المتبنية لشعارات وتحالفات سياسة بعيدة تماما عما يرغب الشعب السعودي المعتز بكرامته ان يراه. باختصار لو اختفت علاقة اميركا مع السعودية لانقلبت رأساً على عقب، وكانت دولة عظيمة حقا.

إذن كلا البلدين، إيران والسعودية، متضرر من علاقة "سيئة"، وكلا البلدين سوف ينتعش لو أزيلت تلك العلاقة، لكن أي الفرقين أكبر؟ نلاحظ ان العلاقة الامريكية بإيران لم تمنعها (أو لم تستطع أن تمنعها) من انتخاب حكامها، ولا منعتها من تطوير صناعتها الحربية وغيرها، وإن كانت قد عرقلتها بدرجة أو بأخرى. وتلك العلاقة لا تصيب الشعب الإيراني بالخجل من نفسه ومن دوره في المنطقة. العلاقة السيئة مع أميركا تتسبب في احتجاز مبالغ ليست صغيرة من الأموال الإيرانية لكنها لا تقارن بالضخ المستمر المهول لأموال البترول السعودي إلى اميركا وحلفائها والتي يعرف الجميع بما فيهم السعوديون، أنها لن تعود أبداً. ولا تقارن أبدا بالمبالغ الخيالية التي تم التوقيع عليها بحجة صفقة وهمية لبيع السلاح للسعودية بدعوى التهديد الإيراني المتخيل.

مستقبل الشعب الإيراني متأثر سلباً بلا شك بالعلاقة السيئة مع أميركا، أما مستقبل الشعب السعودي فهو مهدد بالفناء تماما بسبب تلك العلاقة. أميركا تبدو مصرة على استقطار آخر قطرة نفط دون السماح للبلد بتطوير نفسه في أي اتجاه مستقبلي انتاجي او مستقل ليتمنكن من أن يعتمد على نفسه يوماً. الشعب الإيراني سيستطيع البقاء لو جف النفط، أما الشعب السعودي، فلا امل له ابداً.

العلاقة الامريكية مع إيران سيئة، أما مع السعودية فهي سيئة جدا. العلاقة مع إيران مؤذية لها، أما مع السعودية فهي خطرة على وجود شعبها! إذن يمكننا القول إن علاقة أميركا تجاه إيران "أفضل" من علاقة أميركا تجاه السعودية!

لم يكن السؤال الموجه في عنوان المقالة عجيباً إذن كما تصورنا لأول وهلة. ويمكننا ان نوسع نطاق المقارنة إلى بلدنا وإلى دول أخرى أيضا ونتساءل عن علاقاتها بأميركا أو ببعضها البعض، ونفحص قيمة تلك العلاقة بتأثيرها إيجابا أو سلباً على البلد والشعب. وسنجد أن الكثير مما كنا نظنه علاقة "إيجابية"، هو في الحقيقة العلاقة الأشد ضرراً.

لكن لماذا يبدو الأمر معكوساً لنا إذن؟ ما الذي ادخل في رؤوسنا ان العلاقة الأمريكية السعودية هي علاقة "جيدة" والإيرانية "سيئة"؟ إنه الاعلام والصورة السطحية لمفهوم "العلاقة الجيدة". فالعلاقة الامريكية السعودية تبدو "جيدة" لأنها مغلفة بالكثير من اللطف والمجاملات التي تميز العلاقات "الجيدة" عادة، بينما الإيرانية الأميركية تتميز بالتهديدات والمقاطعات، وهي صورة علاقة سيئة في أذهاننا. أذهاننا المتأخرة عن تطور الأمور، لا تستطيع بسهولة أن تتخيل أن علاقة “لطف” يمكن ان تكون أكثر سوءاً من علاقة تهديدات وأذى.

يمكننا ان نتساءل بنفس المنطق عن علاقات أخرى: هل علاقة مصر بإسرائيل "جيدة"؟ هل يجب ان نسعى إلى علاقة "جيدة" (وطيدة) مع السعودية مثلا؟ قد تبدو بعض الأجوبة غريبة على مسامعنا، لكن الحقيقة هي انه لا غرابة في المسألة. فإن لم يكن ممكن إلا علاقة مؤذية، فمن الأفضل ان تكون العلاقة على اقل ما يكون. والعلاقة الأفضل في هذه الحالة هي العلاقة الأبعد.

لكن لماذا ذهبت الأمور إلى هذا الاتجاه في تلك العلاقات؟ ما الذي يدفعها ويثبت فيها صفة السلبية؟ في كل البلدان يكتب العديد من أصدقاء اميركا ويوجهون بضرورة نبذ "العنتريات" والبحث بذكاء عن علاقة إيجابية مع أميركا. فأميركا موجودة كواقع حال لا مفر منه، وهي دولة عظمى مؤثرة جدا، فمن الأفضل أن تكون لنا معها علاقة إيجابية بدلا من "محاربتها". هؤلاء يصرون أن العلاقات المتوترة تعود إلى "غباء" الساسة في هذه الدول، وأنه لو جاء قيادي ذكي يعرف كيف "يستفيد" من أميركا وغيرها، لكانت أميركا ليست فقط عديمة الضرر، ولكن مفيدة للبلد.

لا شك أنه منطق معقول، بغض النظر عن قصد صاحبه. إلا أننا نعلم الآن أن "علاقة جيدة" لا تناظر "علاقة ود وابتسامات"، فقد تكون الأخيرة أخطر أنواع العلاقات وأشدها ضرراً على الشعب والبلد. فهل هناك حقا طريق لإقامة علاقة إيجابية مع أميركا؟ وكيف؟ ما هو نوع الذكاء المطلوب لذلك وما هي الخطوات اللازمة له؟ من الذي يعرقل تكوين علاقة "جيدة" ذات نفع متبادل للطرفين؟ .... (يتبع)

 

صائب خليل

 

 

في المثقف اليوم