أقلام حرة

مذبحة الروضة.. من التقديس إلى التدنيس

مجدي ابراهيمحادثان مأساويان مرا على الأمة العربية والإسلامية، بمرارة، في غضون الشهور الماضية، يكادُ لم يُعرف لتعاقبهما من الوهلة الأولى سببٌ معقول أو مقبول. ناهيك عما جرى خلالهما في المنطقة من أحداث دمويّة منها مثلاً : قتل الرئيس اليمني السابق (علي عبد الله صالح) من جانب حركة الحوثيين بتلك الوحشية البغيضة. غير أني لا أتحدّث هنا في هذه العُجالة عن حادثة القتل مع وحشيتها البغيضة، ولكني فقط أتحدّث عن مأساوية ما جرى في مذبحة الروضة، وكنت شاهداً إذْ ذَاَكَ على ما جَرَىَ، وقتل ما يربو على (350) مُصلي في مسجد الروضة أثناء تأدية صلاة الجمعة.

هذا هو الحادث المأساوي الأول، ويليه مباشرة إعلان القدس عاصمة إسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية للقدس، ومنع الصلاة في الأقصى تمهيداً لبناء الهيكل على أنقاض المسجد في مستقبل الأيام.

أيّة علاقة خَفيَّة أو ظاهرة تربط وقوع الحادثين تباعاً؟ .. الفترة الواقعة بين قتل المصلين في مسجد الروضة وصدور القرار الأمريكي بنقل السفارة إلى القدس لا تتجاوز الأسابيع، أيكون هذا كله صدفة عارضة أو هو ترتيب مخطط مقصود؟! .. أهى العلاقة الحميمة بين الديني والسياسي على مدار التاريخ الطويل؟ أم هو الصراع الأزلي بينهما مهما حاول المحاولون فصل بعضهما عن الآخر في سياق مختلف؟!

تعليل الحوادث مهمٌ جداً في تفسير التاريخ .. والأحداثُ لا تمر هكذا عرضاً على سطح الواقع العكر دون أسباب معقولة أو مقبولة، فلا توجد أسباب بدون مسبباتها، والعلاقة في الغالب ضرورية بين الأسباب والمسببات. وليس في التاريخ صدف، ولا يوجد حدَث بلا علّة مقصودة. والأخذ بتفسير الأحداث، ومحاولة ردّها إلى عللها الأولى هو في حد ذاته معرفة فلسفية أصيلة؛ فلا نتائج بغير أسباب، حتى إذا ما افترضنا أن هذين الحدثين المأساويين هما نتاج تخلفنا الممتد لفترات طويلة، وسقوطنا في مستنقع آسن من الفُرْقة والتمزق وتغليب المصالح الشخصية على مصالح الأوطان العامة، فلا أقَلّ من تعليل الأسباب الخفيّة الكامنة وراء هذا الذي حَدَثَ.

لقد كانت مقولة "التعليل" من أبرز مقولات ابن خلدون في فلسفة التاريخ؛ فهذا العالم الذي نشاهده بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من التركيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، يدلُّ كل الدلالة على أن باطن التاريخ؛ بمعنى باطن الحدَث، يكمن فيه النظر والتحقيق.

والتعليل الذي هو للكائنات ومبادئها دقيق هو في الحقيقة تعليل باطني جُوَّاني ليس بالبرَّاني، كامنٌ خلف معطيات الأحداث التاريخية الظاهرة بمقدار ما هو كامن خلف أسطحتها البرَّانيَّة.

السطح البرّاني قشرة عائمة على الظاهر المرئي، وما تحت هذه القشرة العائمة من أغوار عميقة هو المحرك لكل ما يبدو ظاهراً على السطح المرئي.

وعليه؛ فالتعليل الذي يقتضي أحكاماً كليّة هو أبرز مقولات ابن خلدون في تفسير الأحداث التاريخية، فهل تسعفنا بداية هذه النظرة الخلدونيّة في تفسير ما جرى خلال هذين الحادثين المأساويين؟

غاية ما نلقاه من قشرة عائمة على السّطح تحليلاً للحدث هو مثل هذه التّصورات تمليها افتراضات : من ذا الذي شهد بالأمس القريب مذبحة الروضة ولم يخفق قلبه ألماً أو تدمع عيناه حزناً لتلك الفعلة البشعة؟ من ذا الذي رأى المصلين يجزرون، كما تجزر الأضاحي؛ مع فارق التخريج في الدلالة، في بيت من بيوت الله، ولم تأخذه الدهشة عجباً وأي عجب؟! أي عجب من ترديد آية البسملة من القاتل قبل أن يَقْدِم على فريسته، وكأنما يقاتل، واهماً، كفاراً بالله، وفريسته رجل مُوَحِّد مثله يدين بما يدين به ويوالي إله واحد يعتقده الموحّدون.

أي عجب أكثر من اعتقاد القاتل أن هذا الفعل المُنكر هو النصر المؤزر من عند الله .. أي عجب يذهل معه المرء فزعاً حين يرى قتل ضيوف الرحمن في أكرم يوم على الله، يوم الجمعة، هو النصر الذي يأتي من عند الله؟! أي دين هذا الذي يعتقدون؟!

لقد مرّت على بلاد الإسلام حملات صليبيّة وأخرى غربية (بريطانية وفرنسية وإيطالية)، كان الاستعمار لبلاد الشرق مبعثها، وكان غايتها الاستيلاء على موارد تلك البلاد الحيوية، وشهدت ديار الإسلام غزوات ومعارك وحروب لفتها الوحشية الغارقة في دماء الأبرياء، ولكن مع ذلك كله، وفوق ذلك كله؛ ما رأينا قط ممّن يدينون بغير عقيدة الإسلام مثل هذا الحادث الغادر الذي يجوّز في الدين قتل المصلين، وأين؟

في بيت الله، وفي أكرم يوم على الله .. ثم يدَّعي القاتل الغادر إنه بفعله هذا يُرضي الله حين يتحدّث باسمه، ويرتكب الكبائر باسمه، وينتصر باسمه، ولكن ينتصر له ضد من؟ لست أدري؟ حقيقةً لست أدري!

لو كان المقتول يخالف القاتل في العقيدة لهان الأمر وخفّ البلاء، ولكن القاتل والمقتول أصحاب ديانة واحدة. إذا رأيتَ أصحاب العقيدة الواحدة يقتلون بعضهم بعضاً ويشوهون عقيدتهم أمام الله وأمام الناس، فاعلم أنهم مصابون بلوثة عقدية قلَّ أن تعالج : سوء فهم في النظر والتفكير يقدح في الجملة فضلاً عن التفصيل في تحصيل الاعتقاد من أساسه : يقدح في التوجُّه، وفي التعلق، وفي تطبيق العقيدة على السلوك؛ فيحوّل الموالاة لله إلى معاداة له؛ فيصبح مفهوم الإله مغايراً تماماً لمفهوم الله التوحيدي الذي جاءت به الأديان الكتابية : يتحول المقدَّس إلى مُدَنَس، ويصبح المنزه بفعل سفك الدماء مجسّداً قبيحاً مرَضيَّاً يتقرَّب إليه المتقربون بالقتل المقدّس وقربان الزفاف الدموي!

ومن القداسة إلى الدناسة يصبح الدين لا معنى له ولا قيمة بين الناس، وتسودُ في المجتمع شريعة الغاب، ويتحوّل إلى أسطورة غارقة في الخرافة هى من جنس الأساطير القديمة التي جعلت من الحروب المقدَّسة هدفاً أسمى لها : الدفاع عن إله مُدَنس بالقتل المقدّس ليس له وجود إلا في أدمغة خربة مدمرة محشوة بالوثنية التي جاء الإسلام ليقضي عليها.

فأنصار الله اليوم يقتلون رجلاً يقول ربي الله، لا بل يقتلون رجالاً وأطفالاً وشباباً !

يقتلون الناس جميعاً .. عن عمد، يقتلون الناس جميعاً !

وأين؟ في بيت من بيوت الله ثم يدَّعُون أنّ هذا هو النصر الذي من عند الله : دَنّسوا إله الأديان حقاً، واصطنعوا لأنفسهم إلهاً يعبدونه، إنْ هوَ إلا مجرّد صنم يستقبل حركات السجود والركوع، ولكن لا يتصور في العقل والشرع أن يكون هو (الله) الذي عرفته الأديان الكتابية، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويوطئ لأمان الخائفين.

ما عهدنا من قبل استحلال حرمة المساجد حتى من الذين لا دين لهم، إذا هم أرادوا البغي اختاروا المكان المناسب واحترموا الشرائع المقدَّسَة، ولكن هؤلاء وأولئك استحلوا حرماتها وقتلوا فيها بوحشية منكرة أنفاس الذاكرين .. خنقوا في أجوافهم ذكر الله الذي هو أفضل من ضرب العناق كما جاء في الحديث الصحيح :

مَنْ منّا لا يريد تزكية عمله عند الملك الواحد الأحد القهار؟ ومن منّا لا يريد، بالإيمان، رفع الدرجات؟ ومن منّا لا يريد الخير الذي هو فوق إعطاء الذهب والورق وفوق ملاقاة العدو مواجهة مستعرة يتبادل فيها ضرب الأعناق؟ لا شك إنهم لم يِرِدُوا الغاية المبطونة من وراء العمل .. إنها الغاية التي كشفها حديث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، حيث قال :" ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهب والورق؛ وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم : قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله عَزَّ وَجَّل" .

هذا كلام رسول الإنسانية. هذا كلام محمد بن عبد الله، صلوات الله عليه، وليس هو بكلام أفلاطون ولا أرسطو ولا ابن تيمية ولا حسن البنا ولا سيد قطب. تخيل؛ مجرد تخيّل، أن يكون الذكر مع العبودية والتحقق خيراً عند الله، وأزكى من المال والذهب والورق؛ أي أزكى من نعيم الدنيا ولو اجتمعت، لا بل أزكى من مواجهة سعير الحرب وملاقاة الأعداء. هذا كلام الحبيب محمد رسول الله، وأعز خلق الله على الله. كيف جاز لمن يسمع كلام الله وكلام رسوله قتل الذاكرين، والذكر مُيّز عن الجهاد الذي يدّعون؟ إذا لم يكن تنفعهم جميع النصوص النقلية، وأظهرها القرآن الكريم يتلونه بعيون عمياء وقلوب صماء، ويرددونه لفظاً بغير معنى، ما جاوز الحناجر والأشداق، وإذا لم تفدْهم من آياته مرماها ولا حتى ظاهرها اللفظي؛ فما الذي ينفعهم من بعدُ، وما الذي يفيدهم؟

هذا أقصى ما يمكن أن يتصوّره المرء في حق مذبحة الروضة، إذا هو تصوّر قتل المسلم لأخيه المسلم، صرخات غير معقولة؛ فهل بالفعل من دبّر حادث مسجد الروضة هم مسلمون أيَّاً كانت انتماءاتهم؟ مجرد افتراض يتيحُ لنا فرصة التساؤل وملامسة الأحداث من باطنها لا من ظاهرها وكفى.

مع تحقيق كارثة الفُرقة في الكيان العربي، أو قُل في الوجود العربي، أو إنْ شئت قلت : في الواقع العربي, يُلاحظ إنّ تفرُّق العرب، وتخاذلهم وتشرذمهم وانقسامهم وتشتتهم وتمزق وحدتهم، وحروبهم ضد بعضهم البعض في الداخل، ونفرتهم على أنفسهم، وفتنتهم السياسية واتصالاتهم بأعدائهم، وعدم قدرتهم على سحب أنفسهم من المركزية الغربية أو التفلت منها؛ كل أولئك كارثة حقيقية مؤكدة تنصب في النهاية لصالح إسرائيل : السرطان المسمم للجسد العربي.

نعم! متنا وماتت عروبتنا فينا، بل مات فينا الدين والنخوة والضمير، ومزقتنا الفُرْقَة شرَّ مُمَزق.

حقيقةً: أمة ماتت ولم تقبر؛ منذ أن تفرّقنا وظننا في التفرقة قوة، وضربنا أوطاننا ووطنيتنا في مقتل، وتقاتلنا على الفتات .. لم تعد وحدة معنوية، ولم تعد قومية عربية بل خونة يقودون وجبناء يترأسون ومصالح تتبادل بين حقير وذليل، ومات الكرام والنبلاء وأخذوا معهم الروح والإرادة والعزم الجميل، مع الكرامة، وتركوا المهانة. تركوا الأجساد خاوية من المعنى حبيسة المأكل والمشرب والمنكح، حيوانات في صور بشرية، حريصة على حياة أي حياة .. والسلام، تعيش كما السوائم لا تفرق فيها بين بغل وعقل .. العقل بغل ولا يزيد، والبغل عقل على التحقيق .. وما أكثر البغال العربية قادةً وشعوباً بلا وطن ولا وطنية في ظل قيم ساقطة، وجُبن كريه، وهمم منكسة، وألوية مطوية، واستقالات من الحياة جبرية بعنوة القوى على الضعيف، وغصب المتفوق على المتخاذل. ثم ماذا؟ ثم يأتي نفس السؤال مرة أخرى : هل بالفعل من دبّر حادث مسجد الروضة في ظل هذه المهانة العربية هم مسلمون حقاً أياً كانت انتماءاتهم؟!

إلى هنا؛ وتظل العلاقة حتى الآن غامضة بين حادث مسجد الروضة ومسألة القرار الأمريكي الجائر بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ الأمر الذي يتبادر فيه السؤال حول مدى التشابه بين الحادثين : أين هو؟

على مدى التاريخ الطويل والعلاقة حميمة جداً بين الديني والسياسي, قد تتخذ شكل الصراع أحياناً, وقد يحاول البعض منّا فصل ما هو ديني عما هو سياسي فلهذا مجال نعم, ولذاك مجال آخر, ولكن الواقع رغم اختلاف السياق هما على اتفاق لا يعزلهما عن بعضهما, ولا يجعل تباعد الأهداف الظاهرة بينهما إلّا على وفاق.

إذا كان تهويد القدس مطمحاً استراتيجياً صهيونياً مع الدّعم اللوجستي الأمريكي لإسرائيل، فالظاهر من المسألة كلها حزمة لا بأس بها من التساؤلات المتشابكة :

لو كان هؤلاء القتلة الذين فجّروا مسجد الروضة بالمصلين، قتلوا في ساعة الجمعة أكثر من (350) مُصلي بين شيخ وطفل وشاب .. لو كان هؤلاء مسلمين حقاً لاتجهوا بالمباشرة إلى المسجد الأقصى يدفعون عنه البغي ويرفعون الوزر ويصدون العدوان .. أيهما أولى وأهم : قتل المسلمين في المسجد أم قتل اليهود المعتدين على المقدسات الإسلامية ؟

أيّاً كانت الظلمة العقلية مشعشعة في رؤوس الناس فلا يمكن أن تتصور عدم التفرقة بين العدو الحقيقي والصديق المزيف، أين العدو الذي يستحق القتل والتنكيل؟ أين المجرم الذي سفك الدماء ورمّل النساء ويتّم الأطفال؟ ولماذا تكون مأساة حادث المُصلين مقدّمة نتيجتها إعلان القرار الأمريكي بهذه السرعة، وفي تلك الفترة الزمنية تحديداً .. لماذا؟

أفرض مثلاً : أن المدبر الحقيقي خلف ستار الجريمة كان مختفياً من وراء مأجورين، وأن المأجورين يحملون بطاقة إسلامية؛ وحين يجتمع المال في يد الجاهل الذي لا علم له ولا خُلق ولا دين، يكون من المؤكد مفسدة عليه، وعلى بني وطنه، وعلى الناس من حوله، ثم ماذا نقول : أيكون الذراع المنفذ عربياً والداعم أجنبياً؟ ربما تكون منظمات أو دول بأسرها، قُلْ ما شئت، وحلل، وأقنع، ولكن هذا كله شيء، وتراتب الأحداث في مجري التاريخ شيء آخر. للتاريخ عقل يفكر دوماً، وذاكرة نابضة بالحياة لا تخرف فتدرك أن المصائب مجتمعة أو متلاحقة لا تخلو منها يد بني صهيون الملوثة بالدم العربي ثم مَنْ والاهم وساندهم ووقف معهم حتى حققوا اليوم حلمهم الذي يحلمون.

ألهذا الحادث الأخير تخطيط مقصود أم هو عرض سطحي عابر سرعان ما يغيب مع الأيام؟ الآن فقط يتبيّن للقارئ العابر مَنْ هو الفاعل، ومن هو المجرم، ومن هو القاتل سفَّاك الدماء.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم