أقلام حرة

الفراشات الحديدية!!

صادق السامرائيما كان أجدادنا في القرن التاسع عشر يتصورون بأن الحديد سيطير، لكن أحد الأخوين رايت وهو ينحدر بدراجته الهوائية في يومٍ ذي ريح، شعر بأن دراجته الهوائية ترتفع، وتعجب للوهلة الأولى، لكن هذه المفاجأة أخذته إلى تفسير ما حصل، وكان مصيبا في قراءته للملاحظة أو المفاجأة، فالدراجة طارت لأنه كان يرتي سترة طويلة وعندما ضربت الرياح بها بعد أن إنفلتت أزرارها إرتفع بدراجته الهوائية وكان أول إنسان يطير مع الحديد، وبنى على ذلك بأن وضع على مقود الدراجة الهوائية لوحين خشبيين وإنحدر بها وإذا بها ترتفع به وتطير فوق المنحدر، ومضى في تطوير هذه الفكرة، حتى أوجد الطائرة، التي شاركت في الحرب العالمية الأولى بعد بضعة سنوات من إختراعها.

ولا تزال فكرة الأخوين رايت تتطور وتتقدم بسرعة مذهلة، حتى وجدتنا في هذا الزمان بطائرات مسيرة وبدون طيار، ومضت الفكرة في نموها، فاصبحنا نتحدث عن الطائرات التي تسمى "درون" ومشاريع إستخدامها في الخدمات البريدية، وذلك وفقا لأنظمة إليكترونية توجهها إلى العنوان المطلوب.

وهذا يعني أن فضاءات الدول المتقدمة ستزدحم بالفراشات الحديدية التي ترفرف أو تأزئز في كل مكان، مما ستتسبب بإزعاجات صوتية وتداهم روعة الطبيعة وصفاء المناظر الجميلة، ولكي تنتمي هذه الطائرات إلى مجتمع الفراشات عليها أن تكون ذات ألوان خلابة، وأن تكون محركاتها ذات انغام موسيقة عذبة، وإلا فأن البشر قد أمعن بتدمير الطبيعة وتشويه الفضاء والسماء.

إن الحديث عن الطائرات المسيرة لنقل الحاجات والطرود البريدية أصبح واقعا ينتظر تشريعات وأنظمة مرور ومراقبة وتأمين سلامة الطيران، والتقاعل مع الأيام وفقا لهذا السلطان التكنولوجي المستبد المهيمن على حياتنا، وهو يتنامى بسرعة فائقة، لا تتوافق وقدرات عقولنا وصيروراتنا التكوينية.

فالتكنولوجيا هي التي حررت البشر من العبودية والإسترقاق، فقبل الآلة كان البشر يُسخّر للعمل كآلة، أما اليوم فأن الآلة يمكنها أن تغنينا عن عشرات ومئات من البشر، لأنها تنجز أضعاف ما يمكن للبشر أن ينجزه وبوقت قياسي جدا.

فما تنتجه المصانع لا يمكن لأية قوة عاملة يدوية أن تحققه وبذات الكمية والسرعة، وهكذا فأن الإعتماد على الآلة صار المقرر لمصير البشرية، وبدون الآلة تفقد البشرية قدراتها التواصلية مع الحياة، وكلما تنامت التكنولوجيا،إزدادت الحياة قوة وقدرة على البناء والخراب في آنٍ واحد.

وفي هذا الخضم الما بعد خيالي تنطلق مجتمعات وتتقوى وتتحقق، وتنقرض أخرى وتتداعى في حيثيات الغابرات وبطون القاسيات، وهي ملثمة البصيرة والأبصار، فلا تدرك ولا ترى إلا ما في ظلمة محيطها المنكمش والمتمترسة فيه لحد الهلاك.

وتلك عجائب عصر آلي الطباع والمناهح والقدرات، ومَن لا يتمكن من وعيه والتفاعل المنتج معه، يجد نفسه على جرف هارئ كمين!!

 

د. صادق السلمرائي

 

 

في المثقف اليوم