أقلام حرة

غربة رمضان في زمن الانحطاط

حشاني زغيديإن رمضان الكريم الذي ارتضاه الله لنا غير رمضان الذي ارتضيناه لأنفسنا، إن رمضان الذي ارتضاه الله لنا شهر فضيل لتقوى وارتقاء الروح وصفائها، إن رمضان محطة للتزود، وفرصة لشحذ الهمم، إن لرمضان مقاصده ومراميه المرسومة المحددة، مقاصد حددها الله في القرآن الكريم قي آيات محكمة ومع الآية الثالثة والثمانين بعد المئة من صورة البقرة، ." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " .

إن القصد الذي من أجله كتب الصيام على عباده هو تحصيل التقوى، تلك الطاقة المحركة للطاعة، تلك الطاقة الكابحة للنزوات والشهوات، تلك الطاقة الدافعة لفعل الخيرات، تلك الطاقة التي تحرر المؤمن من أسر الدنيا وأغلالها، تلك الطاقة التي تستجلي النور والهداية في رحاب العبودية، فالتقوى جهاز وقاية في قلب المؤمن، تشعره برقابة الله في كل حركة وسكنة، تلك التقوى التي تولد السكينة والطمأنينة والراحة فتحرر المؤمن من الخوف الذي يسكن بداخله، فتصغر تلك العوالم الضاغطة وتلك القوة المهيمنة التي استحالت معبودات في زمن الضعف والقهر، تلك التقوى التي تولد التلذذ بطعم الهداية ، إنها اللذة التي سأل عنها هرقل الصحابي الجليل أبا سفيان رضي الله عنه كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث هرقل أنه قال لأبي سفيان ومن معه : وسألتك أيرتد أحد ـ أي : من المسلمين ـ سخطة لدينه، بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب.

حين نعيش تلك الصور العملية التدريبية للرسول القدوة فقد كان رمضان مدرسة تربوية في حياة صاحب الرسالة الخاتمة يظهر لنا حقيقة الصيام والمعنى الحقيقي لتلك العبادة، فكان قليل الترف في مائدة سحوره وفطره، فكان يكفيه قليل الطعام، يقبل على خدمة أهله، يعطي الصلاة حقها، يقبل على الذكر والدعاء وقراءة القرآن، يكثر الإنفاق والصدقة، ومع ذلك كان الرسول القائد يعد الصحابة لحمل رسالة الهداية تدريبا متكاملا لامتلاك عناصر القوة المطلوبة، تحقيقا قول الله عز وجل: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ .

فكان رمضان مفتاحا لسلسلة من الانتصارات في مسيرة الأمة الناهضة بدء بغزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان السنة الثانية للهجرة وتلتها فتح مكة في العشرين من رمضان بعد مضي شوط من العمل المتواصل وتحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم توج ذلك الإعداد بالفتح العظيم بفتح مكة وقد سماه الله فتحا عظيما، فكان للإسلام كلمته في رسم الخريطة في تلك الحقبة من الزمن، فرمضان في الحقيقة يمثل قلب الأمة النابض بالعطاء، فالسجل حافل لا يمكن لمقال مثل هذا أن يسجل كل المحطات المشرقة، ولكن يكفي الإشارة . من ينسى القادسية ؟ وما تحمله القادسية من دلالات في صراع القوة المهيمنة . ومن ينسى فتح الاندلس معجزة الاسلام الباهرة والشاهدة بمعالمها وبصمتها الحضارية ؟ إن رمضان محطة تستحق الوقوف عندها طويلا لاستلهام الدروس العطائية في البناء، فهو مدرسة نستلهم منها النشاط و القوة والحركة لرسم معالم الانسان المعطاء المثابر صاحب النفس الطويل، الانسان المدرك لغاية وجوده .

إذا أمعنا النظر لهذا السجل الحافل و لهذه الانتصارات، سيكون له تساؤلات وجيهة ، كيف يمكن لهذه الموارد البشرية أن تصنع كل هذه الانجازات المبهرة في شهر جعل منه المسلمون شهرا للراحة والخمول والنوم، بل جعلنا منه شهر الترف واللهو والساهرات الحمراء الماجنة في ظل استباحة الأعداء لأراضي المسلمين ومقدراتهم ؟ .إن الرد على التساؤلات قد أشارت إليه الآية الكريمة التي شرعت الصيام الآية الثالثة والثمانين بعد المئة من صورة البقرة، ." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " . فهؤلاء فهموا ووعوا مقاصد الآية في مشروعية الصيام فكانت لهم السيادة والريادة، وستكون لغيرهم الأستاذية إذا حفظوا الدرس وأحسنوا التطبيق .

 

بقلم الأستاذ حشاني زغيدي

 

 

في المثقف اليوم