أقلام حرة

الماء والسماء!!

صادق السامرائيالأرض وعاء حاضن للحياة، وهو يكنز ويحمل أحياء، والعلاقة ما بين الأرض ومحيطها الفضائي تفاعلية حيوية متجاوبة متناسقة تسعى للحفاظ على ديمومة الحياة بأنواعها، والأرض أكثر حنوا على مخلوقاتها منها على بعضها.

والآرض كائن حي يرى ويسمع ويشعر ويفكر ويتدبر أمره وما فيه وما عليه، ولا تحسبن الأرض بلا نفس ومشاعر وعواطف وإنفعالات وتفاعلات، فهي تغضب وتفرح وتحزن وتبكي وتبتهج وتتفاخر وتخجل وتتألم، وتتأسى وتتوجع، وإن قسى عليها خلقها يجني ما قدمته يداه، وما بثته نفسه من البأساء والضراء.

الأرض ذات نَفسٍ كما أجرام السماء الأخرى ذات نفوس وأرواح!!

"وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدِر" 54:12

"أ لم نجعل الأرض كفاتا" 77:25

كفاتا:وعاءً

"...إنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء إهتزت وربت..." 41:39

خاشعة:غبراء متهشمة، وهذا المعنى منقوص وسطحي الدلالة، فالخشوع هنا تعبير واضح على التفاعل الإيجابي ما بين الأرض ومَن عليها من الخلق، مما أهّلها للوصول إلى درجة التلقي والإمداد الذي يبعث فيها الحياة، ويطلق ما فيها من نعيم حنوا على خلقها ووفاءً لسلوكهم الأمين الرؤوف الرحيم، الذي يحمي ويرعى ما يتصل بالأرض من عناصر ومكونات ترابية ومستولدات من رحمها الدفاق.

"أ ولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا..." 32:27

الجرز: اليابسة الغليضة التي لا نبت فيها.

والعلاقة ما بين فضاء الأرض الذي هو ترسها الغازي الواقي لها من صولات الأجرام الأخرى وأسلحتها المتنوعة ذات القدرات الفتاكة، وبين ما على ظهرها وفيها من العناصر والموجودات تواشجات تفاعلية محكمة ذات صيرورات تكوّنية، وفقا لمعادلات متوازنة محكمة تخلو من الخلل أو الإضطراب، فطرفي معادلة التفاعل ما بين الأرض وفضائها ثابتة وواضحة ولا تقبل الخطأ أو الشطط، وهي تمضي بتقدير وحسبان دقيق حكيم.

والطبيعة النفسية القائمة فوقها تؤثر في محيطها البيئي وتتسبب بإستجابات متوافقة معها تماما، فإذا طابت النفوس وتنزهت وإستقامت وإرتقت إلى مستويات النقاء والصفاء، فأن نفس الأرض ستعكسها بتفاعلات معبرة عن طبيعتها وجوهر ما إختمر فيها، وإذا ساءت النفوس وفسدت وتباغضت وتحاقدت وتناقمت، فذلك سينعكس حتما على نفس الأرض وسيستولدها ما يتفق وإرادة النفوس السيئة والشريرة المحتقنة بالكراهية والبغضاء، وهذا ما يؤلم نفس الأرض ويوجعها، وهي كأي كائن كوني تريد الحفاظ على عافيتها وقدرتها على الدوران المتواصل، ولهذا تلقم تلك النفوس ما يساهم في زعزعتها وتحذيرها وتنبيهها وتحفيزها وتذكيرها، وإن لم ترعوي ولم تستعيد رشدها وتنبذ أقياح سوئها، فأن الأرض ستتفاعل معها بما يزيحها وييعدها عن ربوعها التي تعتدي عليها وتؤذيها.

والكثيرون يتصورون أن صلاة الإستسقاء خاصة بالمسلمين، وهي قائمة عند الأمم والشعوب، وفي جميع الديانات البشرية ومنذ الأزل، وهي تعبير عن التوافق النفسي ما بين الخلق المتفاعل فوق التراب وما بين الفضاء البيئي الذي يتصل به، بمعنى أن التفاعلات النفسية بطاقاتها المتنوعة تنضج وتسكب عناصرها اللازمة لإنبثاق البيئة الكفيلة بالإمْطار.

أي أن الإمْطار يمكنه أن يكون صناعة نفسية!!

فنفوس الخلق النقية الطاهرة تساهم بجلب الغيوم وإمطارها، وهذه قاعدة تفاعلية خفية ما بين مكونات الوعاء الأرضي الذي يسبح في فضاء كوني مطلق الإتساع محتدم النيران والتصادمات الفتاكة.

وعند قراءة التأريخ بمنظار نفسي يمكن الإستدلال على السلوك البشري في فترة ما من السلوك البيئي أثناءها، فعندما نقرأ أن بلاد الرافدين كانت أرض سواد خضراء مثمرة معطاء في فترة معينة من التأريخ، يمكننا القول بأن الناس فيها كانت ذات تفاعلات نفسية إيجابية متفوقة على التفاعلات السلبية، وأن الوحدة النفسية والروحية ذات مقام كبير في حياتهم آنذاك!!

ولهذا فأن النفوس الطيبة تصنع بيئة طيبة والخبيثة تصنع بيئة خبيثة، والأرض بما عليها، فكن طيبا لتصنع محيطا طيبا!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم