أقلام حرة

الحاج صالح محمد العراقي.. قلمي ليس للبيع

سليم الحسنيكنت في الحادية والعشرين من العمر، عندما كتبت أول كتبي، كان صغيراً في حجمه بعنوان: (نظرة على الاستراتيجية الإسرائيلية) واردت طباعته في بغداد، فقدمته الى دائرة الرقابة العامة قرب ساحة الحرية في الكرادة.

جاء الجواب على لسان الموظف المسؤول: سيتم طبعه على نفقة وزارة الاعلام، مع هدية مالية (ألف وخمسمائة دينار) وهو مبلغ كبير في تلك الفترة من نهاية السبعينات.. وأن أي طبعة جديدة من الكتيب ستلحقها مكافأة مماثلة، وأضاف على ذلك عرضاً مغرياً بأن يفتح لي مجال الكتابة في مجلة (آفاق عربية) مقابل مكافأة مالية مجزية عن كل مقال.

وأكمل الموظف كلامه: اضف عبارة في المقدمة فيها إشارة الى دور الحزب والثورة في القضية الفلسطينية.

اعترضت بقولي: إن الكتاب يتناول الاستراتيجية الإسرائيلية، ولا توجد مناسبة لهذه الإضافة.

أجاب وقد ظهر عليه الاستغراب من ممانعتي أمام عرض كبير لشاب مثلي: (جملة واحدة كافي، انا أريد أساعدك، أكو واحد يرفض هيج شي).

خرجت وأنا أعيش زهو الانتصار، لقد شعرت بأن رفضي أكسبني أضعاف وأضعاف ما عرضوه، وتمنيت لو أن بمقدوري أن أعود بكتاب آخر، لكي أجدد رفضي فأعيش هذه السعادة الخارجة عن نطاق الوصف.

قطعت بعد ذلك سنوات الهجرة الطويلة، أكتب وأعمل في مجال الإعلام المعارض، فكتبت (٢٣) كتاباً بنفس القلم الذي حملته معي، لم أغيره ولم أبدله ولم أساوم عليه، كان عزيزاً غالياً ثميناً، يعجز القادة والأثرياء عن شرائه.

حاولوا معي لكنهم فشلوا.

ثم حاولوا بعد السقوط وفشلوا أيضاً، وبرفض أشد من ذي قبل. ساومني أصحاب العمائم التجارية، وأغراني رجال السياسة، فكان جوابي رفض الحرّ الذي يشعر بالجرح حين يقايضونه صفقة دنيئة.

وتطور الحال الى أجهزة دولية، فحاولت الجزيرة معي وأجبتها علناً بمقالين نشرتهما قبل اربع سنوات على ما أتذكر. كما نشرت من قبل عن الأشخاص الذين حاولوا شراء قلمي، وأعلنت وقتها أني سأفضح كل من يكرر المحاولة، فهذا القلم لم يدخل سوق المزايدات، وأسأله تعالى أن يبقى هكذا حتى يجف حبره، أو تكسره رصاصة قناص مجهول.

لست قلماً مأجوراً أيها الحاج محمد صالح العراقي.. ومن يعرفني عن قرب يعرف ذلك جيداً. لقد كتبتُ طوال سنوات ما بعد السقوط، ناقداً ما يجري على العراق، وكانت البداية من قومي، من قيادات حزب الدعوة الإسلامية، فوجهت لهم النقد وكنت أول الذين أدانوا حكومة المالكي وسياسته. وتناولت بالنقد الطبقة الحاكمة بمكوناتها واشخاصها، ولا أزال حتى اللحظة متمسكاً بما كتبت مقتنعاً بصحته.

وتوجهت بالنقد ضد سياسات أميركا ومشروعها التخريبي في العراق والمنطقة، وكرست جهدي الطويل ومنذ زمن بعيد ولا أزال في التصدي لسياسة آل سعود، ثم سياسات قطر والامارات والكويت والبحرين. وتحدثت عن نفوذ بعض الجهات الإيرانية وضرورة أن يكون للعراق كلمته المستقلة بعيداً عن تأثيرات دول الجوار.

لست قلماً مأجوراً يا فضيلة أو يا سماحة السيد، فلقد حملت منذ أوائل شبابي فكر المدرسة الصدرية، وكبرتُ في أجوائها وشاب الرأس عليها، وها هي مفرداتها تملأ القلب والعقل والوجدان، وهذا هو القلم المصنوع منها، فهل أبيعه في أواخر العمر؟ ومن ذا الذي يملك ثمنه؟ فثمنه باهض باهض جداً أيها الحاج، إنه مصنوع بمدرسة الامام الشهيد محمد باقر الصدر، وملأت حبره يد الراحل الكبير السيد محمد حسين فضل الله، وأشرف عليه العالم الكبير السيد مرتضى العسكري. ثم لمسته يد طفل عراقي فقير، فهل يمكن لهذا القلم أن يكون معروضاً للبيع؟

أيها الحاج صالح محمد العراقي.. ليس البيع والشراء مهنتي، وليست منصات الولاء لهذا وذاك همّي، إني استهجن هؤلاء الذين يتنقلون عليها، واستصغر شأن الباحثين عن المناصب، ولقد أخذت عهداً على نفسي أن لا يراني انسان عراقي واحد وأنا على كرسي أحد المناصب والمراكز في الدولة، فلقد امتلكت أكبرها وأرفعها وأسماها، وهو زاوية صغيرة في بيت متواضع مع ورقة وقلم، فهل هناك أكبر منه في عمليتكم السياسية؟

خسرتُ علاقات سنوات طويلة مع الجعفري والمالكي والعبادي وغيرهم، وقطعت الجسور مع قادة واقطاب الكتل السياسية، من أجل أن يبقى هذا القلم كما هو مستقلاً رافضاً الأسواق كلها المعلن منها والمخفي. ولو أنك أيها الحاج بذلت جهدك لتجد من يشتري قلمي، واستعنت باتباعك ومثلهم معهم في البحث، فلن تجد من له إمكانية شرائه، فهو كما قلت لك، مصنوع في مدرسة الصدر.

140 سليم الحسني

سليم الحسني

 

 

في المثقف اليوم