أقلام حرة

الإرهاب .. الأيديولوجية المغلقة

مجدي ابراهيملا شك عندي أن الحرب على الإرهاب فريضة وطنية وواجب ديني، ولكنها حرب ينبغي أن توجَّه إلى الأفكار قبل الأعمال، وإلى الأدمغة والعقول قبل البحث في نتائج العنف وكوارث التطرف البغيض. ولاشك عندي أيضاً أن للتنظيمات الإرهابية أيديولوجية مغلقة تستند إلى تراث ديني فاسد دموي موبوء. إنه لتراث مُوغل في التعصب والعنصرية، بمقدار ما هو مُوغِل في الأصولية الظلاميّة والتخلف الفكري بكل معانيه؛ لأن هذه الظلاميّة نفسها؛ كما قلنا من قبل؛ إنما تحمل خصائص الفكر الرجعي العدائي الاستبدادي المنحرف، وتدعو إليه بمختلف الوسائل التي تملكها أو لا تملكها، إرساءً لتلك الخصائص وتدعيماً لأفكارها الرجعية المتبلدة التي حافظت عليها من طريق التقليد والجمود والإتباع.

هذه الرجعية الكاسدة كانت رفضت على الجملة فضلاً عن التفصيل كل صنوف محاولات العقل التأويلية، وحتى إذا هى اجتهدت فأوَّلت، اختارت العنف فأقامت عليه دعائم التأويل، ليصبح "عنف التأويل الديني" نصّاً مقدساً هو الشغل الشاغل للحياة الفكرية المتطرفة لهذه الرجعية الكاسدة. وبالمثل كانت رفضت الدعوة المستنيرة التي حَمَلَ مشاعلها دعاة التنوير وأقطاب الوعي الروحي والفكري في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ فهى من أجل هذا بحق هى نقطة سوداء في جبين العقل العربي على التعميم.

وبعيداً عن النعرات العاطفية، وقريباً من قمة التحليل العقلي البارد، يرجي دراسة "الأزمة" التي سببها الإرهاب الأسود على ما جرى من قبل سنوات في "مذبحة شرم الشيخ"، وعلى ما حدث مؤخراً في سيناء، دراسة جديرة بمستواها الفعلي. وإنه لمستوى أقلق فينا الشعور بالأمان، وأوردنا موارد الغضب والاستنكار، وأثار عواطفنا وأشعل روابطنا بأهمية "المواجهة"، لكنها مواجهة ينقصها الوعي بخطورة الموقف وفداحة عواقبه في الحالة التي ننسى فيها توجهات العقول ومنطلقات الأذهان، ثم نكتفي بالتعلق بما هو أدنى في لسان لغة الخطاب المقززة، فضلاً عن لسان الضمير : من صرخات العاطفة بكاءً على اللبن المسكوب.

ومن هنا؛ فالواجب يقتضي مِنّا قبل أن نتصدى للإرهاب المسلح، علينا أن نزيل من الرؤوس المطموسة تلك الأفكار الظلاميّة المتخلفة، بمعنى أنه علينا أن نبذل قصارى ما في وسعنا في رعاية العملية التربوية والتنويرية؛ فالمطلوب إزكاء الوعي والطرْق الدائم على القدرة على مهادنة العقول المفتقرة إلى أدنى خصائص العقلانية والاستنارة.

وقبل أن نواجه "القوة الصلبة" ممثلة في الأسلحة الثقيلة المتطورة : تقليدية كانت أم غير تقليدية، أحرى بنا أن نواجه "الفكرة"؛ فمازلنا - وأيم الله - بصدد الأفكار في منأى وخمود وكسل واعتزال. أقول؛ علينا أن نزيل من الرؤوس المطموسة، تلك الأفكار العفنة البالية الضالة المضللة التي تركب موجة العنف المدمر والكراهية الحمقاء، وتزج بالإسلام : قِيَمَهُ وأخلاقه ومعاملاته وسماحته, وعقائده الرفيعة المنزهة عن لوثة التحريف والتخريف، في حرب دينية بلهاء لا مبرر لها، تفتقر إلى عوامل النضج الفكري وفهم الحقائق المستوحاة من ملابسات الحياة العامة وروحيَّة الدين الإسلامي الحنيف.

ولأنها أيديولوجية مغلقة، صارت أهم سماتها "الرفض الدجماطيقي" القاطع للآخر؛ فهى ترفض الآخر وتنظر إليه نظرة دونيَّة، ترفض أن تتعامل معه أو تفتح منطقة للحوار الفكري والثقافي تسمح لإقامة علاقة أيديولوجية منظمة معه لا لشيء إلا لأن الأجهزة الفكريّة لدى تلك المنظمات الإرهابية أجهزة معطلة أو تكاد، تستمد أصولها المغلقة من منطقة مظلمة في التراث هى عندي بلا شك المنطقة التي أنتجت العنف على مدى تاريخ طويل من الممارسات الشاذة، وأسفرت عن الإرهاب وسَدَّت منافذ الاستقبال في الوقت الذي فتحت فيه نوافذ إرسالها الخانق المتحجر البليد؛ فإذا هى تسفر عن رؤية للحقائق والأشياء مطموسة، وترسم صورة شوهاء أمام العقل البشرى تدفعه إلى التقوقع والانغلاق، وتظل تلف وتدور في دوائر مغلقة من الصعوبة بمكان تغيير أركانها وثوابتها.

ولأمر ما تخلفنا وتقدَّم الناس؛ فمن الصعوبة العسيرة المتعذرة أن تحمل أيَّة من هذه الطوائف على التزحزح عن مبدأ واحد من مبادئها، أو أصل واحد من أصولها، لأن هذه المبادئ بالفعل أصبحت الآن أصولاً عقائدية كبرى لديها. والعقيدة مما لا ريب فيه إنما هى جزء لا يتجزأ من كيان المرء يحيا به ويعيش من أجله، ثم يموت في سبيله، ولو اقتضاه الأمر أن يفجِّر نفسه وغيره ممَّن لا ذنب لهم ولا جريرة سابقة زاعماً على الجهالة العمياء أن هذا العمل الأحمق نصرة للدين وشهادة في سبيل الله.

وباء! أي والله وباء!

هذا وباء تفشى وانتشر؛ فلنعمد متكاتفين على قلعه من الجذور.

على أن هذه الأيديولوجية الفاسدة، لم تجد العناية الكافية من مثقفينا وكتابنا ومفكرينا بتسليط الضوء الساطع عليها فيما يسمح بمجابهتها بأسلحة النقد العنيف، وتحليل عناصرها الموبؤة إلى جذورها العفنة المتآكلة كيما لا يقترب من تلك المنطقة السوداء أحد، بعد أن تتكشف للأعشى فضلاً عن المبصر جوانب التخلف والرجعية في هذا الفكر الظلامي الأسود، الأمر الذي أتاح الفرصة سانحة لأصحاب الثقافة المحدودة أن يخرجونه للناس باعتباره الفكر المحافظ على الدين (والدين منه براء)، الحامل لروحانيته وسماحته وأصوله، الجاذب لعقول الشباب، وهى عقول - كما نعلم- فارغة من الوعي والثقافة والتكوين أو تكاد، تغيب عنها الرؤية النقدية لما يعرض عليها للوهلة الأولى من بضاعة كاسدة، فتنساق طيعة مختارة مع هذا التطرف المرَضي، أو مقهورة تحت وطأة الظروف الاجتماعية الضاغطة، فيحدث من ثمَّ ما لا قبل لنا بمواجهته من وخيم العواقب وشديد النكبات : الإرهاب والتطرف والعنف والكراهية المدمرة للنفس وللغير.

وهناك مما لاشك فيه أسباب موضوعية أدَّت إلى شيوع هذا الفكر الرجعي المتخلف : المتخلف فعلاً عن كل قيمة من قيم التقدّم والاستنارة والإنسانية، منها عدم إعطاء مساحة كافية لإبراز البديل، وأعني به الفكر التنويري العقلي وإشاعته في القطاعات العريضة من شبابنا، ذلك الفكر الذي من شأنه أن يدك أرض البلادة والتعفن دكاً، ويسمح للعقل أن تكون له حريته في البحث عن الحقيقة بلغة المنطق وسلامة الذوق وترقية الإحساس بالقيم النبيلة مجتمعة، بمقدار ما يعطي للتفكير مكانته وأولويته في أن يكون فريضة إسلاميّة - على حد تخريج المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد - تتقدّم حيث يتقدّم إيمان الإنسان بالإسلام.

لك إنْ شئت أن تراجع المرجعيّة الأيديولوجية لأخطر تنظيم إرهابي في العالم ممثلاً في "القاعدة" لتجدها بعد المراجعة تنبثق عن توجهات جهادية سلفية، وتستند إلى كتابات سوداء لاقت رواجاً وانتشاراً واسعاً بعد أن صادفت تدعيماً من أناس (= منظمات ودول) ملكوا الثروات الطائلة بعد أن فقدوا عقولهم أو عطلوها، وتحدثوا بلغة العنف والتعصب والكراهية لأنفسهم قبل أن تكون للآخرين. صحيح أن الدوافع والمنطلقات والتوجهات في كل عملية إرهابية يقوم بها تنظيم القاعدة، أو فروعه وملحقاته إنما هى دوافع وتبريرات مختلفة من دولة إلى دولة، لكن الغطاء الفكري والمرجعية الأيديولوجية إنما هو أمرُ يرتد إلى مصدر واحد؛ معروف ومدروس.

فقد استولت على الشيخ "أسامة بن لادن" توجهات جهادية كانت تكرع من معين هذا الفكر السلفي الأسود، سواء كان يرتد إلى الجماعات الإسلامية فى مصر، أو إلى التنظيم الجهادي الذي عُرف بالجبهة الإسلامية لجهاد اليهود والصليبيين، والذي أسسه أسامة بن لادن عام 1998م، بعد تحوِّل علاقته من كونه عميلاً للمخابرات المركزية الأمريكية إلى عدو للولايات المتحدة الأمريكية. ثمَّ إن هذا التنظيم الجهادي كان تطور بتطور العلاقات الشخصية بأيمن الظواهري، وبالعناصر الجهادية المصرية التي ارتبطت مع بن لادن بعري وثيقة مع مطلع الحرب في أفغانستان.

وليس ببعيد أن تكون حوادث طابا ومذبحة شرم الشيخ وبقايا المنظمات الإرهابية من دواعش وغيرها أثراً من آثار الخلايا الإرهابية الفرعيّة لتنظيم القاعدة المستقرة في ولاية سيناء.

فالغطاء الفكري لهذه التنظيمات يرتد إلى جذور لكتابات، كانت ولازالت؛ ظلاميّة تعادي التنوير وتقف حائلاً منيعاً دون أن تعطي العقل حريته في الفهم والبحث والتنقيب عن الحقائق المطلقة بمعزل عن العنف الأهوج والتعصب المرذول. ومن أهمها كتابات أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي (ت597 هـ) صاحب "تلبيس إبليس"، ذلك الذي لم يدع أحداً ذا فكرة مستنيرة أو رأي رشيد من خلق الله إلا وقام إبليس في رأيه بغوايته الخبيثة بتلبيسه ولم يستثنِ أحداً قط غير ابن الجوزي نفسه.

ثم تجد كتابات بعض الفقهاء، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وفتاويهم من بعد ذلك، تنعكس بالسلب على الأذهان المنغلقة فيفهمونها فهماً ظاهرياً وكفى، هؤلاء المترسمون بالعلوم لا يعرفون طريقاً للنور، وإنهم ليعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويدعون إلى دين الله على "غلبة ظن" لا على "بصيرة". وما أَبَعَدُ الفرق في ميزان المعرفة بين هاتين الدرجتين، ثم ماذا؟ ثم أنهم ليأخذون أقوال الآخرين، وأفكارهم ممن يخالفونهم وجهة النظر، مأخذ التحوير والتضليل لسوء الفهم أو سوء التأويل، لتجيء - من بعدُ - حاملة لألوان العداء والانغلاق، مسبِّبة للكراهية والنفور وجمود الفكر وتطرف الآراء !

من هذا النوع كانت كتابات ابن تيمية وبعض كتابات تلميذه ابن قيم الجوزيّة، أقول بعضها لا كلها وأنا أعني ما أقول، وأقصد ببعضها تلك التي تابع فيها أستاذه متابعة التقليد الأعمى، ثم هناك الكثير من الآراء المتطرفة صدرت من فقهاء الهدم ووجدت لها مع شديد الأسف أنصاراً وأعواناً حتى صارت مع الترديد لها والانتصار لأصحابها دستوراً لبعض البلاد، يحذون حذوها، ويطبقون تعاليمها بحذافيرها، وكأنها القرآن المنزَّل!

واستمرت هذه الأفكار السوداء تنتقل من سلف إلى خلف، ومن كاتب إلى كاتب، وهى في كل نقلة تجد رواجها وانتشارها بوسائل غير وسائل العلم الهادف والمقصد المجرَّد النزيه؛ فكانت إذْ ذاك تعمل عملها في الرؤوس المطموسة حتى نضجت في أدمغة حديثة ومعاصرة ظهرت بصورة منفرة أشد إيغالاً في التطرف والانغلاق ومعاداة الآخر : في كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، وبخاصة فيما كتبه هذا الأخير متصلاً بمفاهيم كالحاكمية، والجماعة المسلمة في مقابل الجاهلية السائدة في أنظمة الحكم والسياسة، مقدار سيادة هذه الجاهلية وتحكمها في التصورات والانطباعات، وفي الرؤى والاتجاهات، وفي مؤسسات المجتمع، وفي علاقات الأفراد بعضهم ببعض ... إلى آخر ما كتبه "سيد قطب" وأطال فيه الوصف والتصنيف.

ولكن للأمانة العلمية المنصفة نقول : إنّ للرجل مستوى معيناً من التفكير الصادق والذائقة الشعورية الدافقة، نحن نظلمه بالفعل لو أننا جرَّدناه من القيمة الفنية، وبخسناه حقه وأضفنا كتاباته كلها إلى ذلك الضرب الذي يؤجِّج عاطفة القاري ويلهب حماس المستمع وكفى، ثم إنه لينأى بعيداً عن حيوية الروح ودفقة الشعور، ومن ثمَّ يُشعل فتيل العنف والإرهاب في الرؤوس المطموسة.

صحيحُ أن هناك فئة من الإرهابيين يسمون أنفسهم بـ "القطبيين" نسبة إلى "سيد قطب"، يعتبرونه المرجعية الأيديولوجية لمنطلقاتهم الفكرية وتوجهاتهم المتطرفة، وهذا ظلم للرجل فيما لو أخذنا تلك المنطلقات والتوجهات على أنها هى بعينها آراء "سيد قطب" وكتاباته، إذْ ليس كل الأتباع والمريدين على درجة متساوية في الفهم والتحصيل، فهناك مَنْ يَفْهم وَمَنْ لا يَفْهَم، ومن يقرأ بوعي ومن لا يمتلك أصلاً قدرة القراءة بوعي يسبقه ذوق المقروء. الفرقُ كبيرٌ جداً بين القيمة الفنية والأدبية للأعمال، وبين مَنْ تنعكس عليه هذه الأعمال فيوظفها توظيفاً مخلَّاً يسلبها كل قيمة ويجرِّدها من أقل شعور. ولله درُّ كاتبنا كان - طيّب الله ثراه - يكتب بضمير علوي وسريرة مستيقنة موهوبة، ثم يتلقى أفكاره مَنْ يعيها ومَنْ لا يعيها؛ فليس من جريرته أنه يكتب بهذا الذوق الفني الرفيع، ولكنما الجريرة فيما لا ذوْق له ولا فن ولا موهبة ليدرك؛ وليعرف حقيقة هذا الرأي ومرامي ذاك الفكر، فلا عليه من ذنب؛ إنما الذنب ذنب القارئ الذي تتسطح أمامه الأفكار كما تتفسخ لديه سطوة القيم.

فهو في "الظلال" أكبر كتبه : روح تبحث عن خفايا المجهول، وعقل يتلقى مدداً علوياً مباركاً، وقلب خَفَّاق يهبط ويصعد ويرفرف في صعوده وهبوطه ليهتز طرباً بقشعريرة باطنة فيعزف ألحاناً نَديَّة على قيثارة النَّغَم الإلهي الجميل. ونظريته في "السياق" تفسيراً للقرآن من أدق وأبدع ما أخرجته قرائح المفسرين. وكم من زعيم روحي في التاريخ ظُلم حياً وميتاً لا لشيء إلا لأجل تطرف أتباعه وجمود عقول المنتسبين إليه.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم