أقلام حرة

صراع المحاور في العراق

يشهد العراق هذه الأيام وعلى أعتاب تشكيل الحكومة الجديدة، صراعا شرسا بين محورين يحاول كل منهما أن يحجّم الآخر فيما يتم استخدام مختلف الآليات لحسم هذا الصراع الذي أصبح قضية حياة او موت بالنسبة لكلا المحورين.

وأما المحوران فهما كل من محور الإصلاح واما الثاني فمحور الفساد، وتبدو للوهلة الأولى أن موازين القوى تميل لصالح المحور الثاني الذي تمكن من التغلغل في مفاصل الدولة المختلفة طوال السنوات الماضية التي أعقبت إسقاط النظام السابق، كما وان هذا المحور نسج علاقات داخلية وخارجية واسعة، مستخدما لتحقيق ذلك مليارات الدولة العراقية التي نهبها طوال الفترة الماضية، كما وأن لديه وسائل إعلام وآليات مختلفة قادرة على إرباك الوضع في البلاد في حال جرت الرياح على العكس مما تشتهي سفن هذا المحور.

وقد ظهر ذلك جليا بعد أن جاءت نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة على العكس من توقعات اركان هذا المحور الذي هو محور عابر للمحاور الإقليمية واهمها المحورين الأمريكي والإيراني، كما وانه المحور الوحيد في العراق العابر للطوائف والقوميات والعشائر والحزاب والآيديولوجيات. فهو يضم عربا شيعة وسنة وكرد وتركمان وإسلاميين وعلمانيين وأحزاب دينية وأخرى علمانية.

كما وأن أعمدة هذا المحور يدّعي بعضها الإنتماء لمحور المقاومة الذي تقوده ايران في المنطقة فيما ينتمي آخرون للمحور الأمريكي ولا حاجة لذكر الأسماء لأنها معروفة للجميع. وقد ظهر هذا التحالف بشكل جلي في الجلسة الإستثنائية التي عقدها البرلمان المنتهية ولايته والتي دعت لها هيئة رئاسة المجلس العابرة للطوائف والقوميات والمؤلفة من السني سليم الجبوري والشيعي همام حمودي والكردي آرام الشيخ محمد، وكل ما يجمع بين هؤلاء هو خسارتهم للإنتخابات وطمعهم بالمناصب والإمتيازات.

وقد استجابت مختلف الكتل لنداءهم، حيث أصدروا قرارهم باعتبار نتائج الإنتخابات مزوّرة ومصدرين لعدة تشريعات من بينها إعادة عد وفرز أصوات الناخبين يدويا، حتى ادخلوا البلاد في حالة من الإحتقان وكان الوضع على وشك الإنفجار لولا حكمة بعض الأطراف التي نجحت في تهدئة الأمور وتفويت الفرصه على محور الفساد لتفجير الأوضاع في البلاد.

إلا انه وبالرغم من مظاهر القوة التي يتمتع بها هذا المحور ظاهريا إلا أنه يعاني من حالة من الهلع الداخلي خوفا من المستقبل، وقد ظهر الخوف على البرلمانيين من أعضاء هذا المحور بعد فشلهم في تمديد عمر مجلسهم المسخ، إذ أصبحوا بلا حصانه وخفتت أصواتهم فيما اثبتت نتائج إعادة العد والفرز اليدوي تطابقها مع العد الألكتروني، وهو مايثبت كذب وبطلان إدعاءات أركان هذا المحور الذين كلفوا الخزينة العراقية أموالا على عملية عبثيه، في تكرار لمافعله هذا المحور في العام 2010. فضلا عن تأخيرهم لتشكيل الحكومة الجديدة وإدخالهم البلاد في حالة من التوتر وعدم الإستقرار السياسي.

وينبع هذا الذعر من خشية هؤلاء من ملاحقتهم قضائيا بتهم الفساد،بعد أن استغلوا حصانتهم البرلمانية للإستخفاف بالشعب العراقي، إذ ظهر احدهم على شاشة التلفاز ليعترف بكل صلافة أنه قبض مبلغ ثلاثة مليون دولار من أحد الفاسدين لمنع ملاحقته، واعترف آخر بفساد الجميع من معممين ومن أفندية ومن مختلف الطوائف، فيما تعترف الأخرى بتقاسم الكيكة وأخذ الكوموشونات ومن هالمال حمل جمال.

وأمام هذا المحور المتعدد الولاءات، الذي وضع العراق في سوق النخاسة لكل من يوفر لأركانه الحمايه للبقاء في السلطه يقف محور آخر هو محور الإصلاح الذي لا يستند في هذه المعركة الا على عمقه الشعبي وعلى عدالة قضية الإصلاح التي أقرتها كافة الشرايع السماوية والأرضية، ويبدو المرجع السيستاني حفظه الله الراعي الرسمي لهذه المحور، إذ أسفرت توجيهاته للناخب العراق قبيل الإنتخابات عن توجيه ضربة موجعة لمحور الفساد الذي مني بهزيمة قاسية في الإنتخابات بفضل تلك التوجيهات . واما على الأرض فيقود هذا المحور السيد مقتدى الصدر الذي بذل جهود مضنية خلال السنوات الماضية لإصلاح الأوضاع وقطع الطرق على المفسدين، وقد بلغت تلك الجهود ذروتها خلال إعتصام السيد الصدر في المنطقة الخضراء وعند اقتحام مبنى البرلمان في العام عام 2016، الا أن تلك الإحتجاجات لم تسفر عن تحقيق الهدف المنشود، وأنتهت بالإكتفاء بالغاء بعض المناصب السيادية كنواب رئيس الوزراء ونواب رئيس الجمهورية (الذين اعيدوا لاحقا). لكن تلك الإحتجاجات لم تكن سوى خطوة في طريق الإصلاح الطويل، إذ اثمرت عن فوز تحالف سائرون في الإنتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر مايو الماضي.

لقد دق فوز الصدر بالإنتخابات ناقوس الخطر على الفاسدين، الذين طعنوا في فوزه وفي مصداقيته وشغلوا ماكيناتهم الإعلامية للنيل من طروحاته لعلهم بان مقتدى الصدر هو القادر على إقصاء الفاسدين، لأنه الزعيم السياسي العراقي الوحيد الذي يحظى بقاعدة جماهيرية راسخة تبذل الغالي والنفيس تنفيذا لأوامره. وقد بدأت الحملة التسقيطية عبر اتهامه بالإرتباط بالسعودية بالرغم من انه الزعيم العراقي الوحيد الذي وقف بوجه امريكا، فكيف يتنازل لتبعها السعودية؟

ولعل اهم الأدوات التي يستخدمها الصدر في معركته ضد الفاسدين هي تأكيده على اهمية استقلالية القرار العراقي بعد أن وضع الفاسدون سيادة العراق رهن هذه الدولة او تلك، وتحضرني في هذه المناسبة، ان احد اعضاء البرلمان العراقي من الإئتلاف العراقي الموحد حينها، و ممن احتفظ بمقعده طوال السنوات الماضية حتى فقده في هذه الإنتخابات، طلب مني مساعدته في الترجمه لدى لقاءه بمسؤول امريكي في المنطقة الخضراء عام 2006 بعد تكليف نوري المالكي بتشكيل الحكومة حينها.

وقد فوجئت بحضور البرلماني برفقة أحد الوزراء في حكومة الجعفري، واما موضوع الإجتماع فكان إقناع المسؤول الأمريكي بان الوزير مؤهل للإحتفاظ بمنصبه في حكومة المالكي، وقد سرد البرلماني جملة من الأدلة على ذلك متوسلا المسؤول الأمريكي بدعم ترشيحه، وقد كنت اتولى الترجمة مدهوشا من مدى ذلة ذلك البرلماني أمام الأمريكي (رولف برينغتون) ! وظلت هذه المشاهد تتكر فيما بعد إذ يقف ممثلوا العديد من الكتل على ابواب السفارات لنيل بركتها لتشكيل الحكومة أو لتعيين وزراءها، واما الثمن فيدفع لاحقا من اموال العراق المنهوية إما على شكل عقود او تسهيلات تعزز نفوذ تلك الدول داخل العراق.

هذا السيناريو لايزال قائما في العراق لحد اليوم، وهو مايفسر الدعوة التي اطلقها السيد الصدر لمختلف الأطراف العراقية بعدم الإستعانة بالخارج في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، لكن محور الفساد يعتبر الإستعانة بالخارج أحد امضى أسلحته للإحتفاظ بإمتيازاته في وقت يرفع فيه زورا شعارات الوطنية والدفاع عن العراق مع انه حاضر لبيع العراق بأبخس الإثمان مقابل بقاءه في السلطه.

ولا يقع اللوم على الدول الأخرى التي لها مصالحها ولذا فلاتجد ضيرا في دعم هؤلاء الفاسدين الذين يفتحون أبواب العراق مشرعة امامهم بل اللوم كل اللوم على هؤلاء ومن ينتخبهم مع علمه بفسادهم وعمالتهم. وأمام هذه المعادلة المعقدة فإن الإنتصار في هذه المعركة يتوقف على معارضة تشكيل أي حكومة تستعين بالخارج، ولذا فإن أي كتلة تسعى للإصلاح وتريد استعادة القرار العراقي فعليها ان تقاطع أي طرف يستنجد بالخارج للبقاء على السلطه، وان تتحالف مع كتلة سائرون التي أثبت راعيها صدق محاربته للفساد، كما وأثبت أنه ليس بصدد الإستعانة بالخارج للوصول الى السلطه.

وبغير ذلك فإن محور الفساد سيظل يعبث بمقدرات البلاد لأربع سنين أخرى تترسخ فيها جذوره حتى ياتي اليوم الذي يصعب فيه إقتلاعها. وأما اليوم فهناك فرصة تاريخية لإنزال هزيمة بهذا المحور عبر الإلتفاف حول السيد مقتدى الصدر، ولا ينبغي للقوى الوطنية ان تضيع هذه الفرصة لأن الفرص تمر مر السحاب!

 

ساهر عريبي

 

في المثقف اليوم