أقلام حرة
ماذا وراء زيارة الزعيم الروحي لشيعة البحرين الى بريطانيا؟
وصل الى العاصمة البريطانية لندن يوم الإثنين الماضي الزعيم الروحي للأغلبية الشيعية في البحرين آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم في زيارة غير متوقعة بداعي تلقي العلاج، بعد ان تدهور الوضع الصحي للشيخ الثمانيني الذي يوصف بانه أبُ اول دستور للبحرين بعد ان نالت استقلالها ”الشكلي“ من بريطانيا عام1971 .فبعد عامين من اعلان الإستقلال جرت إنتخابات اول مجلس تأسيسي وأعقبها إنتخابات مجلس وطني حصل فيها آية الله قاسم على أعلى نسبة أصوات حيث تولّى المجلس التأسيسي سنّ اول دستور للبلاد نظمت على أساسه لاحقا أول انتخابات برلمانية.
وقد اعتبر كثير من السياسيين وفقهاء القانون الدستوري أن دستور 1973 كان خطوة ديمقراطية متقدمة وتحولا مهما في تاريخ البحرين الحديث، إلا أن عائلة آل خليفة انقلبت على الدستور في العام ١٩٧٥ وقررت تجميد العمل به وحلّ أول مجلس وطني منتخب. وقد أدخل إنقلاب العائلة الحاكمة على الدستور، البلاد في حالة من عدم الإستقرار حيث إندلعت عقب ذلك عدة إنتفاضات في البلاد تطالب بالعودة الى الدستور، ومنها إنتفاضة الثمانيات والتسعينات، وأخيرا ثورة الرابع عشر من فبراير التي اندلعت في البحرين عام ٢٠١١ ولازالت تداعياتها متواصلة في الجزيرة الصغيرة التي تحولت الى موطن للأسطول الخامس الأمريكي فيما افتتحت فيها اول قاعدة بريطانية منذ الإستقلال، بالإضافة الى قوات سعودية وإماراتية دخلت البلاد في مارس من العام ٢٠١١ منعا لإسقاط النظام الحاكم، الذي كان سقوطه قاب قوسين او ادنى في سياق ماعرف بثورات الربيع العربي التي اندلعت ذلك العام.
لعب آية الله قاسم دورا محوريا في الثورة التي أصبح رمزا لها وقائدالحراك سياسي قوي يطالب بالتحول الديمقراطي، وأبا روحيا لجمهور واسع من المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والدينية، وبالرغم من قربه من كبرى الجمعيات السياسية المعارضة في البحرين وهي جمعية الوفاق. أثارت مواقفه الصلبة غضب النظام وخاصة بعد رفض الجمعيات السياسية المشاركة في الإنتخابات ”الصورية“ التي اجراها النظام في العام ٢٠١٤، فعمد النظام الى إصدار قرار بإسقاط الجنسية عنه في العام ٢٠١٦، وهو القرار الذي رفضته الجماهير البحرانية التي اعتصمت أمام منزله في بلدة الدراز، حيث أقدمت السلطات بعد عام من حصار البلدة على فض الإعتصام مستخدمة الرصاص مما أسفر عن سقوط خمسة ضحايا بين صفوف المعتصمين.
وبقي الشيخ المحاصر يواجه خطر الترحيل من البلاد مثلما تم ترحيل آخرين كآية الله الشيخ النجاتي وآخرين. لم يكن ذلك الجسد الثمانيني ليتحمل كل تلك الآلام والمتاعب لولا تلك النفس الكبيرة التي حملها بين جنبيه فكان صموده أسطوريا امام نظام لايعرف معنى للرحمة او الشفقة ولا يرى غير القوة وسيلة لمواجهة المطالب المشروعة لغالبية الشعب البحراني، والتي تتمحور حول تقاسم السلطة والتوزيع العادل لثروات البلاد التي إحتلتها عائلة آل خليفة الحاكمة في العام ١٧٨٣ بعد أن قدمت لها من منطقة الزبارة في دولة قطر الحالية.
وفي ظل حالة الحصار المفروضة على الشيخ منذ عامين وتدهور الأوضاع في البلاد، تردّى الوضع الصحّي للشيخ بشكل كبير، حيث فقد نصف وزنه و تعرض لنزيف داخلي ومضاعفات اخرى حتى أصبح مصيره غامضا وقد تم نقله مرات عدة الى مستشفيات متخصصة داخل البلاد، لكن المخاوف على صحته تزايدت خاصة بعد إصابته برضوض وبروز مخاوف من إصابته بمرض عضال. ولذلك فيبدو أن قرار معالجته في الخارج يندرج في هذا السياق، وخاصة في العاصمة البريطانية لندن.
لكن قرار سفره الى لندن أثار لغطا بين صفوف بعض فصائل المعارضة البحرانية في الخارج وخاصة المقيمة في العاصمة البريطانية لندن، التي اعتبرت أن قرار السفر يخدم النظام الحاكم وأن الشيخ قاسم خضع لضغوط وكما عبّر عن ذلك المعارض البحراني البارز الدكتور سعيد الشهابي الذي وصف في سلسلة تغريدات له قرار السفر بانه ”خطة لنفي الشيخ“ من البلاد، وذهب الشهابي الى أبعد من ذلك عندما اعتبرر أن قرار إبعاد الشيخ ”سعودي-إماراتي فرض مؤخرا عندما طلب الدكتاتور مساعدة مالية من السعودية والإمارات والكويت“، وان دعوى مرض الشيخ ” افتعلها الطاغيه“ في إشارة الى حاكم البحرين حمد آل خليفه، ولفت الشهابي الى ان شركاء عديدون شاركوا في ما وصفه ب“الصفقة الخبيثة التي تهدف لكسر إرادة الشعب وهزيمة شعبه“. واختتم الشهابي تغريداته باعتبار سفر الشيخ للعلاج في الخارج“ أكبر مؤامرة شاركت فيها اطراف ضد ثورة الشعب وهويته ورمزه الديني وعنوان صموده“ واصفا الزيارة ب“النفي ” الذي تم وفقا “لإخراج سيء ومضلل سيرتد على مخططيه والمشاركين في تنفيذه“ على حد قول الشهابي.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه القضية التي أصبحت حديث الساعة بين البحرانيين داخل البلاد وخارجها، لابد من الإشارة الى أن هذه الزيارة العلاجية الى لندن بالذات ليست الأولى لمرجع شيعي بارز، فقد سبقتها في العام ١٩٧٠ زيارة للمرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم الذي عولج من مرض عضال في مستشفى سانت بيل، لكن المرض لم يمهله طويلا، وقد وافته المنية حال عودته الى العراق في ذلك العام. كما وان ظروف الزيارة تزامنت مع إجراءات قمعية إتخذتها سلطات نظام البعث التي استولت على السلطه في العام ١٩٦٨، حيث سعت الى تحجيم دور المرجعية الدينية في النجف الأشرف إذ استهدفتها عبر توجيه إتهامات للسيد الشهيد مهدي الحكيم نجل المرجع الراحل بالتجسس، وجرى بعد ذلك التضييق بشكل كبير على المرجعية الدينية ومنعها من اداء دورها في المجتمع.
وبعد قرابة الأربعة عقود على تلك الزيارة، أجرى المرجع السيستاني زيارة علاجية الى لندن في العام ٢٠٠٤ عاد بعد إتمامها الى النجف الأشرف. ومن اللافت أن زيارة المراجع الى بريطانيا للعلاج عادة ماترافقها إنتقادات حادة وإتهامات بالتهرب وعدم تحمل المسؤولية أو تنفيذها وفقا لمؤامرات خارجية وداخلية، وهو ماحصل مع زيارة المرجع السيستاني. إذ جرت في ظل هجوم شنته القوات العراقية مدعومة بالقوات الأمريكية على جماعات مسلحة في مدينة النجف الأشرف، حيث وجهت أصابع الإتهام حينها الى المرجع بالتهرب من مسؤولياته إزاء ماحصل في النجف إضافة الى الضلوع في مؤامرات خارجية على العراق، فيما اتهمه البعض الآخر بالرضوخ للدائرة المحيطة به وخاصة نجله محمد رضا وصهره السيد الكشميري الذي يعيش في لندن. لكن المرجع عاد الى العراق بعد انتهاء علاجه لممارسة دور كبير في إدارة دفة العملية السياسية حيث أصر على كتابة أول دستور للبلاد وإقامة اول إنتخابات حرة في تاريخها.
وعند العودة الى قضية الشيخ قاسم فلاشك أنه لايمكن تناولها بمعزل عن التطورات السياسية في البلاد وخاصة بعد ان وصل حل الأزمة الى طريق مسدود، بعد أن تبنى النظام الخيار القمعي حيث زج بقادة المعارضة في السجن وكذلك فعل مع آلاف الناشطين وحاصر الشيخ قاسم ومنع إقامة صلاة الجمعة في الدراز، ولم يعد هناك أي مساحة في البلاد للعمل السياسي او الحقوقي أو النشاط الإعلامي الحر. كما وان تدهور الحالة الصحية للشيخ والحصار الشديد المفروض عليه لم تبق للشيخ من دور في البلاد.
كما وانه لم يعد امام النظام من عائق لتنفيذ مخططاته ومنها إبعاد آية الله قاسم الى خارج البلاد بعد اسقاط جنسيته. وهو إجراء يمكن للسلطه أن تقدم عليه في أي لحظة منذ فكها بالقوة للإعتصام أمام منزل الشيخ ومنذ إبعادها لغيره من رجال الدين. وبالنظر الى رمزية الشيخ بين صفوف أغلبية الشعب فإن إرغام السلطات للشيخ على الرحيل سيوجه ضربة نفسية قوية للبحرانيين، خاصة مع تراجع الحراك الشعبي بسبب السياسات الأمنية المشدّدة والدعم الخارجي للنظام، إضافة الى ان قرار السلطات بالتصدي للشيخ إتخذته وهي على علم بتبعاته وقد ظهر ذلك في تغريدة لوزير الخارجية خالد احمد الخليفة الذي عبّر عن هواجس نظام عائلته في تغريدة نشرها في العام ٢٠١٦ وتغنى بها بأبيات من الشعر الشعبي للشاعر العراقي الراحل الملا عبود الكرخي وجاء فيها ” ذبّيت روحي اعله الجرش وأدري الجرش ياذيهه، ساعة وأكسر المجرشه وألعن أبو راعيهه“ ومفادها انه يعلم بعواقب تلك الخطوة والأضرار التي ستلحق به لكنه قرر المواجهة.
لكن السلطات امتعنت من تنفيذ عملية الإبعاد بالرغم من أنها تندرج في إطار عقليتها التي تحكم بها البلاد. فهذه السلطات تسعى لكسر إرادة البحرانيين بأي شكل من الأشكال، وعلى سبيل المثال لا الحصر فبعد عملية الهروب الشهيرة من سجن جو التي جعلت السلطات في موضع السخرية والتندر، فإنها سارعت الى إعدام ثلاثة من السجناء سعيا منها لإحتواء الآثار التي خلفها هروب سجناء جو.
وأما سبب تلكؤها في ابعاد الشيخ فهو سعيها لتطبيع الأوضاع مع البحرانيين لعلمها برمزية الشيخ وبأن ابعاده بالقوة سيستفز الشعب وسيقضي على كافة مخططاتها لإعادة تسوية الأوضاع وفقا لما تشتهيه، بالرغم من علمها بسهولة تنفيذ عملية الإبعاد القسري . لكن هذا لا يستلزم بالضرورة أنها وضعت مخططا لإبعاد الشيخ عبر سيناريو العلاج، بالرغم من انها ومما لاشك فيه تسعى لإستثمار مرض الشيخ لطي صفحة هذا الملف.
إذ ان مايدحض نظرية المؤامرة وهي أبسط تفسير للأحداث وقد ابتلي بها الشرق كثيرا، هو أن تدهور الوضع الصحي للشيخ أمر لا ريب فيه وخاصة لشخص بعمره عانى الويلات تحت نير هذا النظام، كما وان علاجه في الخارج هو الآخر أمر طبيعي لشخص بمثل مكانته وعمره إضافة الى تواضع إمكانيات البلاد الصحية مقارنة بماهي عليه في بريطانيا.
لكن المعارضون ينظرون الى تداعيات وآثار هذا القرار ليقيّموامن خلالها مدى صحة القرار من عدمه. وأحد هذه التداعيات هو استغلال النظام لها للظهور بمظهر الحريص على سلامة الشيخ، لكن هذه محاولة فاشلة من نظام باتت تدرك الأغلبية الشعبية انه مجرم ومستبد ولا يمتلك ذرة من الإنسانية والقيم، خاصة وانه اسقط جنسية من ساهم بكتابة اول دستور للبلاد، ولذا فإن هذه المبادرة لم تحظى بترحيب شعبي إذ أن اول من بادر لشكر حاكم البحرين هي ذات الأبواق التي تسبح بحمده.
واما المخاوف من خلو الساحة لتنفيذ مخططات النظام، فإن الساحة قد خلت في الداخل منذ اعتقال قادة الحراك الشعبي والحصار المفروض على آية الله قاسم، وان إجراءات السلطات لتنظيم الإنتخابات المقبلة سائرة على قدم وساق بالرغم من أن السلطات فشلت في استقطاب أطراف لها ثقل شعبي بين صفوف المعارضة للمشاركة في الإنتخابات المقبله، وإن كان التطبيع مع النظام متوقف على رأي الشيخ وإن كان هناك التزام برأيه فإن هذا سيقع سواء اكان داخل البلاد ام خارجها. ولذا فإن خلو الساحة في الداخل من حضور الشيخ لاتعني غيابه عنها، إلا لدواعي المرض وهذه الدواعي قائمة سواء أكان في البحرين ام في لندن بل إن غياب الشيخ عن الساحة سيكون أكبر فيما لو بقي في البحرين واستمر وضعه الصحي في التدهور.
وأما بشأن الدور السعودي -الإماراتي فمما لاشك فيه أن البحرين تمر بأزمة إقتصادية وقد تقدمت بطلب الى الدولتين للحصول على حزمة مساعدات مالية لإنقاذ الإقتصاد، وخاصة الدينار من الإنهيار،وقد طلبت تلك الدولتين من البحرين القيام بإصلاحات اقتصادية كشرط لتقديم أي مساعده ولم يرشح أن الدولتين اشترطتا ابعاد آية الله قاسم. وعلى جانب آخر فإن كلا الدولتين لا ترغبان في تردي إقتصاد البحرين لأن إنهيار الدينار ستكون له تداعيات سيئة على عملات دول الخليج الخرى.
ومع الأخذ بنظر الإعتبار كل هذه المعطيات فمما لاشك فيه إن قرار علاج الشيخ في الخارج إتخذ لأسباب طبية محضة وان تداعياته المحتملة على الواقع في البحرين شبه معدومة، ولكن هذا لايعني أن النظام لن يحاول استثمار هذه الخطوة لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل والخارج، لكنها لن تكون بأفضل من المكاسب التي جناها طوال السنوات الماضية من خلال إدعائاته إحترام حقوق الإنسان في البلاد عبر اتخاذ اجراءات شكلية مثل تأسيس ديوان التظلمات ووحدة التحقيقات الخاصة والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، إذ لم تنطلي مثل هذه الإجراءات لا على شعب البحرين ولا على المجتمع الدولي و لم تفلح في تبييض سجل النظام الإجرامي، حتى بات الحديث عن إنتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان جاريا على كل لسان في مجلس حقوق الإنسان!
ساهر عريبي