أقلام حرة

أدونيس والقراءة التشاؤومية!!

صادق السامرائيالعلاقة ما بين الشعر والفكر ليست جديدة، بل أن الشعر ربما مرحلة فكرية سبقت ولادة الأديان في مسيرة البشرية، ولكي يكون الشاعر مفكرا عليها أن يعيش في قلب الحياة ويكتوي بنيرانها وتحدياتها الجسيمة، ولا يمكن إستعمال الآليات الشعرية للتعبير الفكري السليم، فالشعراء الذين أطلقوا أبياتا شعرية ذات قيمة فكرية وتأثيرية في السلوك البشري، كانوا من الحكماء والفلاسفة والمفكرين الأصيلين، وبعضهم إستلهموا أفكار الفلاسفة والحكماء وجسدوها بصياغات شعرية، كما يُرجح أن المتنبي كان يفعل ذلك لإطلاعه على الفكر اليوناني.

أما الشعراء الآخرون الذين سطروا روائع فكرية في أشعارهم فهم من الذين تمازجوا مع الحياة في أعلى مستوياتها، وواجهوها على حقيقتها وتصدوا لصولاتها، وأمثال هؤلاء يحفل بهم التأريخ إبتداءً بشعراء المعلقات وإنتهاءً بالشاعر أحمد شوقي.

وفي زمننا المعاصر يمتطي صهوة الفكر الشاعر أدونيس، وكلما قرأت له أو إستمعت لمقابلاته وأحاديثه، أجدني أمام مفكر بلغة شعرية، بمعنى أنه يتكلم عن الفكر بآليات شعرية، وكأن الفكر ليس من بنات واقع الحياة وإنما من الموجودات الخيالية والتصورية، فيُطرح على أنه رؤى وتداعيات لا تمت للواقع الحقيقي للحياة البشرية.

فالقول بأن العرب سينقرضون حتما لأنهم يأكلون بعضهم، فيه الكثير من الشطط، لأن العرب يأكلون بعضهم منذ فجر التأريخ وقبل الإسلام وبعده، مثلما تأكل العديد من شعوب الدنيا بعضها، وهذا قائم في أوربا وآسيا وأفريقيا، وما إنقرضت شعوبها بل تواصلت وتألقت، فالحروب والصراعات تطلق آليات التحدي وتؤجج إرادات البقاء.

وما يغفله المفكرون أن السبب الجوهري في الإنقراض الذي أصاب الحضارات السابقة هو الأمراض السارية والمعدية التي كانت تمحق الآلاف والملايين في بضعة أيام، ومنها الطاعون والجدري والحصبة والسعال الديكي والخناق والإنفلاونزا والكوليرا والملاريا والتدرن الرئوي، وغيرها من الأمراض الفتاكة التي أرعبت الأجيال وما أبقت منها إلا الذين إمتلكوا بعض مناعة، ومع ذلك لم يتمكن جنكيز خان ولا هولاكو من محق الوجود العربي في العراق، ولم تتمكن فرنسا من إلغاء الهوية العربية للجزائريين.

ومن أعظم الإنجازات التي تحققت في التأريخ هو الإنتصار على الجراثيم والميكروبات خصوصا في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، والذي تكللت جهود التصدي ومساعي التحدي إلى تقدم هائل في العلوم الطبية والسلوكيات الوقائية من الأمراض الفتاكة.

ومعنى هذا أن الأمم والمجتمعات لن تنقرض مهما إشتدت الحروب والصراعات فيها وحولها، لأنها لن تقتل منها مثلما كانت تقتل الجراثيم والميكروبات الوبائية الخطيرة.

وعليه فأن القول بإنقراض العرب لأنهم يتقاتلون لا يلامس معطيات الواقع البشري على مدى العصور، خصوصا في عصر تمازجت فيه الأمم والشعوب وتداخلت وتفاعلت ثقافاتها وجيناتها، وتمددت وتشابكت إلى حدٍ كبير.

فالصراعات العربية العربية قائمة منذ أن وُجد العرب وستبقى إلى الأبد، بين مدٍ وجزرٍ وسيبقى العرب.

وهذه الظاهرة ليست خاصة بالعرب، وإنما من طبيعة السلوك البشري ولا تُستثنى منه أمة من الأمم، والذي يتوهم بنظره القصير بأن الشعوب آمنة ولا تتصارع، وفقا لما يراه في فترة زمنية عمرها سبعة عقود، إنما على خطأ، فأوربا تتصارع فيما بينها وفي داخلها، فهي تعيش حروبا أهلية وإقليمية على مر العصور ولا تزال في تأهبها للتصارع، ومهما توهمنا بأن الإتحاد الأوربي سيقضي على الصراعات الأوربية فأن ذلك لن يدوم لعقود أخرى، وعلامات التداعيات أخذت تدب في المجتمعات الأوربية كما هوالحال في إيطاليا وألمانيا، وما يسود الدنيا من توجهات يشير إلى حالات تصارع عظيم تلوح على بوابات العقود القادمات.

إن النظرة التشاؤومية للواقع العربي فيها خطورة كبيرة، لأنها توهن الناس وتخدعهم وتثبط عزائمهم، وتجعلهم يتوهمون بأنهم هم لا غيرهم مَن لا يشارك بصناعة الحياة، والواقع يقول بأن العرب يشاركون بصناعة الحضارة الإنسانية ولكن ليس في أوطانهم، ذلك أن هناك عقول عربية في معظم المحافل العلمية والإبداعية العالمية، وحتى الثورة التواصلية ومنتوجاتها فيها لمسات عربية، أ ليس ستيف جوبز من أب عربي سوري؟!!

وهكذا سلوك يمكنه أن يوصف بالعدواني على الوجود العربي في زمن جائع لشد الهمم وتعزيز العزائم والإيمان بالقدرة على صناعة مستقبل أفضل وأقوَم، وفي الأمة قدرات فائقة وتطلعات سامقة، وعقول نابهة، أ ليس أدونيس نفسه عربي؟!

من المؤسف حقا أن يتكلم رموز الأمة بلغة إلغائية وسلبية ذات تأثيرات إنتكاسية وتدميرية للنفس العربية، وتسويغية للسلوك الإنتكابي الذي يساهم بصناعة التداعيات المريرة.

فلماذا لا يفكر المفكرون العرب مثلما يفكر المفكرون في المجتمعات المتقدمة؟!!

ولماذا يغرقون بالسلبية ولا يتجرؤون على النطق بإيجابية، ويعجزون عن إستحضار المستقبل وتثوير الطاقات العربية نحو صيرورة أرقى وأعظم؟!!

 

د. صادق السامرائي 

                 

 

في المثقف اليوم