أقلام حرة

عراقي أنا ولا أندم

علي المرهجعراقي عشت وعراقي أموت، لا لأنَي أذوق حرَ صيف العراق وجحيم الألم، لأحوله لقصيدة، فلست بشاعر، ولا لأنَي أهيم في برد شتاء العراق وقرَه، لأقص عيلكم جميل الكلام، وأسرد أنباءً عن بلد كانت عاصمته قبلة الدنيا الحضارية.

ولكن يبدو أن القدر كتب في ألواح الألم السومري، ولوح الربَ المحفوظ أن أكون عراقياً، لذلك فلا مناص، فإن كُنت ناقداً لبعض أو كثير من أزماتنا الأخلاقية في المُجتمع العراقي، فلا يعني ذلك أنني أبرئ نفسي مما في النفس البشرية من آثام ولا أنفي عن نفسي بعض أو كثير من صفاتي كعراقي، فأنا عراقي في بعض من خرابه الذي يسكن ذاتي، ولكن ما ينجيني أنني في الكثير من جماله تنطق به كلماتي، وأنا عراقي في كثير من جماله المخبوء والضامر بفعل طُغيان وأفاعيل من له القوة في نشر القُبح، وتغييب عناصر الإبداع الجمالي العراقي.

ذلك الإبداع الذي تغنى به الغربيون وتفاخروا أنهم ممن يُسموَن بـ "عُلماء الآشوريات" وبأنهم كشفوا عن عمق حضاري شكل بداية تاريخ الجمال في العمران والكتابة والموسيقى والفن بكل أشكاله، وشكل مجلساً لشورى الآلهة في سومر.

فأنا عراقي ولا أندم، ولو جاء جيوش جُدد من التتر، ليسفكوا الدم، وقد جاءوا فعلاً، من حملة الرايات السود، الذي لا هم لهم سوى سفك الدم العراقي وتهديم حضارته، ومحاولة إلغاء تاريخه، ولك في داعش حكاية وذاكرة حاضرة نافذة لبناء روايات وليست رواية.

ولك في حملة الرايات السود من يدَعون إنتماء لكربلاء التاريخ وعاشوراء التضحية، و "إنتصار السيف على الدم"، بعضها يصدق في إنتمائه، وأكثرهم يوظفهم دُعاة القتل ليكونوا وسيلة لتحقيق أطماعهم في البقاء على كرسي السلطة.

وأن إنطلت اللعبة على كثير منَا، نحن العراقيين، من الشيعة والسنة والكُرد، ولكن بعد ذاق الشعب ما ذاق من ويلات، أظن أنه بجل طوائفه وأعراقه، قد أدرك القصد ولو بعد حين، فلم يستفد أهل السنة من ساستهم سوى التهجير وخراب الديار وخسارة الإنسان وفقدانه لماله، أو بإنكساره.

ولم يستفد الشيعة من ساستهم سوى الخيبة والخُذلان، وإن كانت بعض المناطق السُنية في أيام صدام تعيش بعض من الرخاء، ففي زمن قادة الشيعة، يعيش أبناء الجنوب وأغلبيتهم من الشيعة بفقر مُدقع، وأمهات ثكلى فقدن أولادهن، وشوارع ملأى بصور الشهداء الصبية والشباب وبعضهم من أصحاب الشيَبة ممن آمنوا "كما آمن الناس" ممن توكلوا على الله، فقالوا "على الله توكلنا"، فكانوا "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر"، ومن ينتظر هو اليوم يتظاهر ضد الظُلم والفساد، ولا يطلب سوى ردَ الحق لأصحابه، وهو يفتخر أنه عراقي ودافع عن العراق من شماله إلى جنوبه من قبل أيام صدام، واليوم هو يُدافع عن العراق من جنوبه إلى شماله، ولكنه في ذات الوقت شعب نفَذ ما عليه من واجبات، وهو اليوم يُطالب الحكومة بحقوقه التي تنَكرت لها وأنكرتها، وهي أبسط الحقوق، لا تعدو أن تكون حقوقاً لحيوانات في بُلدان يحكمها القانون مثل أوربا، بل وحتى في بلدان الشرق الأقصى مثل: إيران وتركيا.

وعراقي أنا ولا أندم، و"سيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون"، لأنهم لم يتبعوا منهج إدعوا أنهم من أتباعه ألا و هو المنهج القرآني، الذي يدعوا للرحمة والمغفرة والقسط، بل ويُخاطب الرسول بقوله سبحانه وتعالى "وإخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين"، ولكن حكومتنا تكبرت وتجبرت ولم تخفض جناحها لمن اتبعها وثبتها على كرسي السلطة، فأمعنت في تعذيبهم، والتشكيك بوطنيتهم، رغم أنهم سقوا أرض العراق طولاً وعُرضاً بدمائهم الزكية، فهل هناك نُكران للجميل أمرَ من هكذا نُكران؟، وهل هُناك شعب صابر مُحتسب مُحب لأرضه فسقاها بدمه مثل شعب العراق؟.

(إرفع راسك أنت عراقي)، شعار يستحقه العراقيون من جنوب العراق إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، فهو يخص العراقيين الأكثرية التي ضحت وصمتت لفرط ما فيها من طيبة، ولا يخص من يتبجح ويحمل السلاح ويُهدد بالويل والثبور لكل من يخرج عن الطاعة، فعند الكُرد أجهزة تقمع، وعند السُنة إرهاب يقطع الرأس عن الجسد، وعند الشيعة قوى مُسلحة، بعضها (ميليشيات) لا تخضع لسلطة الدولة، والمشكلة أن بعضها يستخدم سيارات الدولة وأسلحتها وهوياتها لاختراق القانون ومُحاسبة من يظنون أنه ضدهم، والأجهزة الأمنية لا حول لها ولا قوة!، لأن القائد العام للقوات المُسلحة لا يمتلك سوى الوعود بالحرب على الفساد والفُسَاد، وفي نهية كل أسبوع يظهر لنا القائد العام ليعدنا باجراءات لمُحاسبة الخارجين على القانون!.

ولكني عراقي ولا أندمُ، وسأبني أحلاماً ورؤية لوطن بجماله أحلمُ، وربما سيأتي هذا اليوم بعد حين، ولكنَي أظن أننا بسواعد السُمر نبني قمم، شباب واعد يبغي حياة أجمل من حياتنا وأنعمُ.

اليوم تظاهروا لمطلب خدمي، وغداً سينتفض أو سيثورا وستسمع الأممُ.

لذا أقول أنني عراقيُ أنا ولا أندمُ.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم