أقلام حرة

حرب غير نظامية

... في حروبنا الدونكيشوتية المتكررة، النازفة بالندم، كان الطريق الاجتنابي خيارنا الأول، البوح مٌر والسكوت أمّر بكثير، لكن الاختلاف في مدّاهما، فقد نظلم أناسا آخرين في البوح، غير الصمت الذي لا تُظلم فيه إلاّ النفس، قد يعرف الصديق أن الصراع كتلة من لهب تحرق جوانب الصدر، لكن البعيد يرى عين الحقيقة المُزْرَّقة اللافحة كنهايات لهب، سواد الأيام بياضا.

كلانا يا صديقي (تخاطب النفس صاحبها)، يعلم أن في ذلك اليوم، في تلك الساعة من ليلة غارقة في السواد كان الجواب الحقيقي الذي يتميز على الخطأ بآلاف الليالي ...لا.. ثم ألف لالالاء، ولكنك سكتت ففُهم سكوتك نعم، ككل سكوت يراد به النفي، إنك يا صديقي أوهمت نفسك أن الحالتين سواء وأن من يقابلك سيقدر نِعمك ويفهمها على الحقيقة التي تسرح وتصرخ بكل جوارحك أنها فقط وفقط لا.

لازلت...رغم هزائمك المتكررة وصراعك الدائم مع العدم، لا تعلم أن البعض ليس الكُل، والقليل ليس الكثير، ولكنك تتهاوى في فهمك، كعادتك وتشرح نفس الفكرة، بنفس النمط ممزق الجوانب مظلم الأفكار، تريد أن تفهمني أن في تلك الساعة من تلك الليلة، من ألاف السنين، كان المخاض عسيرا فلم تلد ببنت شفاه، بل سكتت حتى انقرضت الكلمات في أفواه المظلومين، حتى الدعاء لم يكفيك فدعوت، أن يفك الله لسانك ويطلقه في المرة المقبلة، ولكنك لم تفهم يوما أن الحقيقة عندك في قاموسك أصبح لها جناحان، تطير كلما اقتربت منها، وفي كل فصولك مُنع عليك الصيد يا صديقي، تلك اللحظة البائدة كانت الفيصل مع القدر، مع كل شيء، لكنك كنت صيادا ماهرا، فاصطدت السكوت فلم يكن لك إلاّ ما فهم غيرك.

توقف قليلا.... فلم يبقى من العمر لقول الحقيقة، ولكن بقي من الوقت الكثير لكتمانها، أنا وأنت قد وجدنا في السكوت حربا، لم يفهمها أحد ولكن هذا ما جعل النهار طويلا استغرق الليل كله، فعشنا العام عامين عام مِحــّن يبدأ من القيام من الندم، والعام الآخر ندم على المحن، أين تستلم المحن الندم وتفرش لها موقدا بقلبك، يحترق على نار هادئة ليلا. عشنا العام عامان واليوم الذي أهلك الناس نهاره فرحا وليله راحة من فرح، أفنيناه قرحا بنهاريه، فلم يختلف الظلام عن النور في حياتك يوما، فقط وجه لعملة واحدة، قد تكون جهة منها يخفيها دخان غليونك الأسود وعطر التبغ الممزوج بالأعشاب، بخس الثمن كعمرك تماما.

ماذا لو قلت لا...بتلك الساعة من تلك الليلة، كان سيُغنيك عن الكلام، إيماءة بالسبابة يمينا وشمالا، ليفهموا أن الأمر تعدى السكوت بقليل، بل كانت ستكفيك ليعرف ذلك الشخص في نفسه المبهمة، أنك قد تقول نعم يوما لكن ليس بتلك الساعة، على الأقل كنت ستربح بعض الوقت، وتنزع بعضا من حياءك المتناهي الأطراف... وينتهي الأمر دون ندم...

اليوم يا صديقي.... لا ينفع الندم ولا البكاء، تقول النفس، فقد تمسح عيونك بأيادي متسخة، فتصاب بالرمد، فعوض أن تمسح يداك على عيونك، يصاب ذلك المثل القائل أن لا تنفع العين إلا اليد بالملّل والسأم وبعض الجحود، فيرجع خطوة إلى الوراء وبيد خالية من قبعة زائفة يبجل ذلك الموقف دون وقار، في تلك اللحظة البائسة التي تكون فيها باقي الكائنات الحية والميتة، التي فهمت أن الدنيا لا نهاية لها، استوقفتها الدموع هنيهة بين ماضي ملبد ومستقبل داكن، في تلك اللحظة بالذات يصاب كل شيء بالشلل فتسقط جميع الأقنعة لتعلم أن قول لا في ذلك اليوم كان سيبعد عنك وجع هذه السنين.

كان بديهيا بعض الشيء أن تستنفر اليد إلى العين، لكن ما لم تفهمه اليد بعد، أن الحرب داخلية غائصة في الأحشاء، فما بكت العين على حبيب ولكن على نفس تورمت الكلمات في فاه صاحبها، تلك النفس التي خاضت حروبا تلّتها حروب، ومعارك زائفة كثيرة تغلب فيها السكوت عن الكلام معظم الوقت، وباقي الوقت كان الكلام فيها عتابا للنفس فقط دون أن يبرح باب الصدر المقفل لهف من حريق يكتنز داخله....قل لا ستكفيك عراك الحاضر.

 

الاطرش بن قابل...الجزائر

 

في المثقف اليوم