أقلام حرة

حديث في السياسة

الحياة أوراق مطــوية، لا جديد فيها بالنسبة لنا على الأقل، حتى لا نظلم باقي العالم، قد ننفض الغبار على بعضها، لقراءتها وترجمتها ترجمة مخالفة للحقيقة السابقة التي عرفناها في نفس الأوراق عند أناس آخرين، في زمن آخر، فلم أرى جبانا استفاق من جُبنه، وعلى أكثر تقدير سيرى الجبان فيمــا جَنّته يده نوعا من البطــــــــولة كتصريف لأمره الشـــــارد، في حديث يجْتـره كلما ذكرت البطولات في مجمع، غير أن الحديث يجُرنا جراً دوما إلى عالم السياسة لا لسبب ولكن لأنهم دائمي الحديث وقليلي الفائدة، والكلام قد يسري على أشخاص آخرين، لكن الساسة، أكثر كلاما وأكثر تشويقا، كأفلام بوليود التي قد يطير حصــــــان عربة فيه حول العالم، أو ينزل مُمثل في البحر دون عدّة لأسابيع أو ربما أشهــر. بل أكثر فقد يخرج علينا في مناسبات كثيرة ساسة استلهموا مواقفهم من ثورات سابقة كانوا فيها شهداء دون أن يُقتلوا، ربما كادوا يكونون كذلك ولكن طول العمر ورؤية حكيمة قد تكون من العدو نفسه، كانت أنفع لهم وله من الموت فتأخر إعدامهم ثلاث ثواني وبعض أجزاء، كان الأمر أشبه بالجبن الطري، المملح،والمنكه بعيدا هناك وراء البحر، لكنه كان ذى شجاعة بارزة دكّت صفوف العدو حتى استسلم نصفه، ومات الباقي منتحرين على محراب بندقية الصيد الوحيدة في المعركة، التي شارك فيها كل الثوار بمدافع رشاشة إلاّ فارسنا.

في يوم مشمش تحت سفح جبل بمعية مئات المجاهدين كان سيموت لولا لطف الله واختباءه بجحر طيلة المعركة وبعد نهاية المعركة بيومين أو ثلاثة، كان قد تناول مؤونة ست رجال وأربعة نساء وكلبين وقطة، نهض من محرابه إلى الضوء، فاستسلم الضوء والحُكم وقليلا من الحاضرين، وهكذا أصبحت دواليب الحكم تساق بدواليب السياسة ودواليب السياسة تساق بدواليب الدسيسة، ودواليب الدسيسة تساق من وراء البحار، ودون أن يعلم العام والخاص أصبحت قيم الثورة مفقودة إلا من خطابات تهافتت بها أفواه الخاصة دون العامة، دون أن تعمل بقليلها، فقد غاصت القيم الأصيلة نظرا لثقلها، وطفت قيم مستوردة خفيفة على القلب مرحة شفافة، تبدو الهاوية من خلالها جميلة، فاستهلكت كوجبة سريعة، فتغيرنا من عالم مستعمر الأرض إلى عالم مستعمر الفكر والمستقبل، وتناولنا مشعل العلمانية بدل مشعل الحرية، فلا انسلخنا عن ذاتنا وانقدنا كما ينقاد القطيع إلى حتفه ولا مكثنا على جذورنا، تُـهنا بين سياسة مزاجية وعالم منفتح، وشعب معلول، وأفق ضيق.

كنا سنموت غرقا لولا لطف الساسة والكياسة فقد أبدلوا الذهب بما ذهب، فكلاهما مستحاث على قول أحدهم فدّم شهداء عبر سنين بل قرون، قد تحول إلى بترول أسود ومنه أشعلنا الثورة وربيع ساخن، وأشعلنا مواقد الغرب، فنحن شعوب معطاءة على حد ما ذكر التاريخ لنا من كرم واعترف به، وعلى حد ما نرى من همم اليوم، تعطي بسخاء حتى أن الآية التي قال فيها الله، يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، تجلت في ملوكنا وحكامنا البارحة وقبلها بسنين وعلى مر التاريخ، نعطي وأي عطاء، انغمس مع الحب بل أعطينا حتى من نخوتنا وكرامتنا حتى لا ينافسنا أحد في العطاء بعد ذلك، حتى لو اجتمع الإنس والجن، فلن يقدروا على أن يسبقونا، كيف ونحن من أعطى البنين قبل المال، ومما سجل التاريخ لنا من إيثار أننا وعوض أن نحارب أعداءنا آثرنا أن نتحارب ونتواجه بكل طرق المواجهة المباشرة وغير المباشرة، تدفق الدم على جوانب مدننا سقيا لأرواح الشهداء، ونحن من تقاتلنا حتى نزف الدم من جباهنا، وقلوبنا.

ما لم يعرفه التاريخ أننا ولدنا بين جيلين، جيل أرّخ وكتب ونبش في الحجر، فلما ارتوينا منهم ملأت بطوننا تجويفا فأنبتنا جيلا آخر، مبهم النهاية، معدم الحاضر، لقد عرفنا أننا بين جيلين، حلقة قد تكون مسئولة عن ما نحن فيه، جيل حر أبي وجيل أعدمه الساسة وحكم الدساسة، الغلط الحقيقي الذي لم ينبهنا له أحد له، وقد خلى فينا نظرية، أننا انتظرنا الخير من الساسة، وانتظرنا أن تحل الدولة مشاكلنا، في حين أن مشاكلهم لم تحل، ارتباطنا بأوهام حلول لأحلام تافهة، وانتظرنا ممن لا قرار له أن يقرر فينا خيرا، تلك مشكلتنا ببساطة شديدة، عوض أن نرفع على سواعدنا ونجر البلاد، وضعنا قدم على قدم وانتظرنا أن تجرنا الدولة، وفي مد وجر بين أفكار هدامة و فقعات حروب أصبحنا نعيش أعداء دون عداء، يحكمنا الأبطال وتنقصنا السياسة، كل يوم يمر علينا نطفو فيه، وتغص مبادئنا......

 

الاطرش بن قابل

 

في المثقف اليوم