أقلام حرة

بين السياسة والتاريخ.. قراءة في رواية (دمه) لمحمد الأحمد

صالح الرزوقفي رواية (دمه) لمحمد الأحمد(1)، الصادرة عن دار فضاءات في مطلع عام 2018، قراءة إسقاط للتاريخ. فباختيار الكوفة وشجرة النزاعات الدموية للوالي مع أفراد أسرته ومع الخليفة الأموي في دمشق، نفهم أنه يقصد المشابهة والمماثلة. وهذه الحيلة الفنية معروفة منذ عام 1960 وقد مهد لها:

- رفع لواء التحديث والابتعاد عن المحاكاة والمباشرة.

- ثم الخوف من محاسبة السلطات ولوبي الرأي العام. ولطالما كان العصاب الجماعي وهستيريا العامة من أصعب القيود التي تؤثر على حرية التعبير كما ذكر الدكتور حسين سرمك حسن في كتابه (البطل البريء).

تبدأ الرواية عام 119 هجرية بمشهد مقابلة في البلاط، وتنتهي عام 121 هجرية بمشهد تعذيب وقتل سياسي في السجن. وهذا يعني أنها مشدودة بين نقطة إضاءة ونقطة إظلام، أو بين حدين من حدود الغرائز البشرية، وقد رشحها ذلك لتكون صورة موجزة عن صراع الحياة مع الموت. أو بلغة أوضح: لتطوير صورة المانح بشكل سلطة عذاب وقهر ومنع. وبتحويل بسيط يمكن قراءة هذا التقابل على أنه إعادة بناء لموقع الذاكرة من النسيان. فالماضي تتجاذبه هذه العوامل التي تلغي نفسها بنفسها، وبالأخص حجب الذاكرة بواسطة ستار من النسيان. وبتعبير الناقد حمزة عليوي مثل هذا الإجراء يضعنا وجها لوجه أمام عدة ثنائيات طالما تميزت بها روايات ما بعد الاستعمار. ومنها المكان كدليل على الهوية، بمعنى الإشارة بغير العاقل إلى العاقل. فالإحساس بالمكان هو الذي يصنعه، وإدراكنا للشيء هو الذي يضعه في سياقه النفسي والاجتماعي. ومهما كانت الأشياء موجودة بذاتها فهي دون أهمية إن لم تتشكل في الوعي. ولنأخذ حروب التحرير كمثال. إنها من وجهة نظر الغزاة مجرد عنف وفوضى أو خروج على القوانين المرعية. وفي الأرشيف الأدبي الحديث حالة لا يطالها الشك وهي مشكلة فلسطين. فرواية (أم سعد) لغسان كنفاني تلغيها رواية (الغبار) ليائيل دايان، ببساطة لأن الحبكة عند كنفاني كانت هي الذاكرة التاريخية. لكنها عند دايان كانت محاولة مستميتة لاستئناس الذاكرة وتحويلها إلى تاريخ. وهذا يضعنا مباشرة أمام علاقة الواقع بالأسطورة. وهو ما يسميه عليوي بالتمثيل الخطابي. وعليه ليس للخطاب أي دور خارج سياق إنتاجه. ولذلك إن الذاكرة مختلفة عن التاريخ، ويمكن لأي منهما أن يحل محل الآخر(2). لكن هذا لا يعني أننا أمام ثنائية من نوع الوجود والعدم، وإنما هي حالة تعطيل. وليكون الكلام أوضح إنها مشكلة في ترتيب الأولويات. وقد تفرعت من هذا التقابل مجموعة حكايات أضاءت لنا خلفيات تلك الفترة وكواليسها، ولا سيما من الناحية الفكرية، وفي المقدمة حكاية الجعد بن الدرهم وموته بيد والي العراق خالد القسري.

وتحيلنا هذه الملاحظة لرواية (متاهة أخيرهم) لمحمد الأحمد نفسه. إنها مؤشر على منعطف تاريخي دموي في تاريخ العراق، لكن الحديث في هذه المرة. فالأحداث تبدأ من النكبة وما أدت له من احتكاك مؤسف مع اليهود. وفرارهم من بلدهم العراق إلى مستقبل مجهول. وتحت عنوان اسطوري وديني. ويفترض أن هناك من يترجمه لحالة دنيوية. وأقصد بذلك فكرة (أرض الميعاد). فتحويل تاريخية الدين لبروباغاندا سياسية، حوّل الديالكتيك إلى ميتافيزيقا. ولا بد أن ذلك أثر أيضا على شكل التعبير وأسلوبيته. فقد كانت الرواية متاهة من الشخصيات التي تفترق وتتقاطع بأثرها النفسي لا بحقيقتها في المنظور والفراغ. كما فعل عاموس عوز في سيرته (قصة عن الحب والظلام). فقد كانت الشخصيات تتكاثر مثل صورة للذات في المرآة. بمعنى آخر كانت الذات تبحث عن نفسها في الآخر. وبلغة أوضح: كان الراوي يخيّم بعالمه النفسي على كل شخصياته، ويرسمها كما يجب أن تبدو، أو كما يحب أن يراها. ولذلك كانت الشخصية الواحدة تكرر نفسها بأسماء مختلفة.

وأعتقد أن كل روايات الأجيال تنحو هذا المنحى، مع ميزة خاصة بالروايات اليهودية. فهي تسعى للتطابق منعا للحاضر من الذوبان،. ربما بسبب الخوف من ذكريات المحرقة، ناهيك عن عقدة التيه التي يحمل الشعب اليهودي وزرها. لقد دفع عوز ثمن ذلك من خياله عن الماضي لا الحاضر. فقد اختزله بفكرة واحدة لكن جردها بعدة شخصيات، أو عدة انطباعات عن الخيال الذي يراه أمامه محسوسا على صفحة المرآة.

وهذه هي خلاصة رواية محمد الأحمد. إنها مأساة ضمير هذا المجتمع، في طوره الراهن، ولكن من خلال ذاكرته عن الأمس. فالحاضر هو الذي يعمل على تزييف ذاكرتنا. إنه يلغي صفحات أساسية من المدونة ليترك في النفس الأثر الماحي للحقيقة.

ويبدو لي أن (الغل البشري) لسومرست موم هي المسطرة التي يمكن أن تقيس بها سيرة عوز وكتاب محمد الأحمد. فهي أيضا بحث عن المرآة المحبوبة التي ترى بها خيالك كما تريد. بما فيه من لحظات شقاء وألم، مع لحظات مسرة. وإذا كان مصدر الشقاء فيها ينبع من اختلاف الإنسان مع الصورة الموهومة لمصيره الواقعي، فإن الأحمد وعوز يختلفان مع أدوات المصير وطريقة إنتاجه، وفلسفته في التراكم. فهذه الأعمال تتحمل عبء التمني، وتقترب من الحقيقة، وعلى عيونها عصابة سميكة. فهي تسمع أكثر مما ترى، أو تعيد تخيل مواقف لم تكن حاضرة فيها. وتتعامل معها كأنها شاهد. ومثل هذه المفارقة هي المسؤولة عن تحويل الوهم لواقع طبيعي. فلا محمد الأحمد كان حاضرا في النكبة. ولا عوز كان شاهدا على بدايات تشكيل العائلة اليهودية. بمعنى أنها قبيلة تحرس الوصايا العشرة. وكلاهما يستعيد صور النكبة بالاستناد على ذيولها في حروب عام 67 و73. ولا شك أنه يوجد فرق ملموس بين السبب والنتيجة.

إن مشكلة هذه الأعمال هي في المساواة بين شهادة البصر وشهادة السمع. فهذا يلغي الفرق بين دور الحواس. وبالمثل إنه يلغي الفرق بين معنى الطور أو المرحلة. فيصبح الحاضر مثل الماضي بأثره على الإدراك وتشكيل الوعي وشبكة العلاقات مع الذات والمجتمع.

لكن ارتكز أسلوب رواية (دمه) على ثلاثة محاور هامة:

الأول هو الابتعاد عن اللغة السكونية التي تنظر للتاريخ على أنه بيت أحلامنا الذهبية، ومصدر لكل الأمجاد التي يجب أن نفتخر بها. بالعكس من ذلك لقد ذهبت الرواية بعيدا في تفكيك منابع الشر والفساد، وتحويل الحلم المخملي إلى كابوس مخيف ومرعب يهيمن عليه الهلاك والدمار. وكان من أهم عناصر الحبكة البطش والاغتيال والمطاردات.

والثاني هو غياب الشخصية المركزية أو البطل الأوحد، فقد حمل عبء الأحداث بالتناوب:

(1) وحدات سردية بضمير الغائب.

و(2) أوراق من مخطوط لمؤلف مجهول.

وكانت الحبكة تتطور شاقوليا عن طريق الشخصيات التي تتحرك بأمر من الراوي، وهي بمعظمها إن لم نقل كلها شخوص اعتبارية نعرفها باسم المهنة لا باسم العلم، ومنها الوالي والخليفة والقاضي والناسخ وهكذا...

ثم أفقيا عن طريق أمكنة غير مستقلة وذاتية نراها بعيني الراوي نفسه. وكانت هذه الأمكنة (إن استعملنا تعبير باختين) تفتقر لحصر وتحديد البطل في العالم الخارجي، فالإنسان هنا لا يفنى، ويضيع في العالم وتكتمل دورة طباعه وحياته من خلال أفكار رقيقة وشفافة وتكهنية ص 241. لقد كانت الشخصيات (وبلغة باختين أيضا) فاعلة لكن الطبيعة خاملة (3). ولعبت دور جوقة تنقل فكرة الرواية التي هي قدر مسلط على الانسان أو مصير محدد ومعروف سلفا ص 242. وبوجيز العبارة كانت الأحداث تدور في الغرف والقاعات أو ما يسمى مساحات محصورة وفضاءات مغلقة. فالوالي، وهو المدخل الأول للحبكة، كان لا يحب المساحات الواسعة كي لا تنال منه الأعين ص 21. وبالمثل كان مولعا بالغرف الضيقة لغاية التكتم والسرية ص 21 . وترافق ذلك مع الفقر بالأثاث وتراكم الخيالات والأشباح. وإذا وجدت المفروشات فهي غير جيدة ص 14 ويغلب عليها التقشف ص 18. وساعد هذا الجو على تقريب العمل كله من عالم الشعر الغنائي ونشاط الذات والابتعاد عن الواقع. وعليه إن الرواية لم تنتج معرفة ولكن ساهمت في تشكيل خيال فني وأفكار لا يمكننا أن نقر بها. وفي المقدمة الهدف من المعرفة، فهي كما تصورها الأحداث وسيلة للتأثير والامتلاك، وطريقة من طرق انتزاع السلطة، وليست ضمانة للعقل من الضياع أو الانحلال.

أما الأمر الثالث والأخير فهو غياب الحكاية. بمعنى تبسيط الحبكة وتعويم المواقف والتصورات. ولذلك كان الأسلوب موزعا بالتساوي بين التحليل والوصف. وغني عن القول إن التحليل خاص بالشخصيات والوصف خاص بالأماكن. وقد ترتب على ذلك اختلاف في درجة السطوع وفي قرب أو ابتعاد المشاهد. فالجزء الخاص بتحديد خصال الوالي مثلا كان يهتم بنفسيته ومزاجه. في حين كل شيء له علاقة بالصالونات والممرات اهتم بألوان الطنافس والوسائد. وقل نفس الشيء عن غرفة النوم والمحظيات فقد ركزت على لون الشعر والعيون والثياب وحتى غطاء السرير.

وإذا كان لا بد من تصنيف يمكن القول إنها رواية تيار وعي، لكن عوضا عن متابعة الأفكار والصور من خلال النشاط النفسي للشخصية كان علينا متابعة المشاهد والسجال الدموي بين المعتقدات. وهذا المفهوم الانتقائي والنخبوي للأحداث قاد بالضرورة لاختزال مساحة المكان أو تقييدها. فالرواية، ومع أن أحداثها تغطي مساحة جغرافية واسعة، لكن لا يوجد تصوير للغابات أو البوادي ولا حتى السهول والمرتفعات التي توفر بالعادة لرواية المكائد ما يلزم من حبكة أو مفاجآت. لقد اختفت المشاهد واللوحات الطبيعية تماما ولم تهتم بالسماء المنبسطة ولا شروق أو غروب الشمس، وليس هناك إشارة واضحة لطريق تنهبه سنابك الخيول. واقتصرت المباني على بلاط وغرفة نوم في قصر وزنزانة في قلعة لتأديب المعارضين. إنها أماكن كلوستروفوبية تعزز من سلطة أشكال الرهاب وأنواع الحصر وتساعد على تضخيم دور الرعب. والأهم من ذلك إنها تعجل بتحويل الأحلام إلى كوابيس.

لقد كانت الأعمال التاريخية تركز على مهمة تزييف الوعي بالتاريخ وتحوله إلى صور مطلقة تسبح في بحر من قصص الغرام والبطولات. وهذا يفترض أن يتخلل الأحداث مطاردات واستعمال للسيف مع الكثير من الأفكار العاطفية التي لا ترى فرقا بين حب المرأة وحب البلاد. أو أنها تعمل على تزييف الوعي بالذات الإلهية وتعزو للإنسان صفات خارقة وفذة وفردية على وجه المطلق كما هو الحال في روايات الرسل والقديسين. وهذا يفترض اهتماما خاصا بالسماء وحياة الطيور للتعبير عن رغبة الإنسان بالتطهير والتسامي. وفي الحالتين كان يحدو الحبكة صراع بين العناصر ومنها الخير والشر أو الظلام والنور أو حتى بين الماضي المدنس بالرزايا والحاضر المتحول والجاهز للانفجار.

ولكن (دمه) اختارت أن تنمو في جو ضبابي معتم وتحت سقف لا يأوي تحته إلا الأشرار والأنانيون كملك ظالم ووزير انتهازي أو صديق غير مخلص. وبالمقابل نأت بنفسها عن التقاليد الكرنفالية التي التزم بها الخيال التاريخي ومنها تعدد الألوان واللهجات والأصوات، واكتفت بلهجة واحدة. حتى أن أصوات كل الشخصيات كانت تستعمل مفردات فصيحة ومتشابهة ولا يفصل بينها أي فرق في العادات. بمعنى أنها تدل أو تعكس نفس العقل المنتج ولا تحمل بصمات الطبقة ولا المهنة ولا حتى العصر الذي تنتمي إليه. ففي تلك الفترة من حياة الدولة الإسلامية تفاقم النزاع بين أصحاب المهن وأهل الكلام وجماعات المعتزلة، وكان لكل فئة قاموسها وحياتها النفسية.

وباعتبار أن الأحداث جرت في عصر هشام بن عبد الملك (أبو الوليد الأول)، وخلال ثورة زيد بن علي الذي خرج في الكوفة ثم اعتقل ولاقى حتفه عام 122 هجرية، ركز العمل على عاطفة وجودية أساسية يرى كيركيجور أنها سبب من أسباب اليقظة والقلق وهي عاطفة الرهبة. فالخوف أساسا هو السبب الأول للانتباه والابتعاد عن الخطأ وللاحتفاظ بمسافة بين الذات والعالم. وقد بالغت الرواية بتصوير هذا الجو، ورسمت لوحات مرعبة يسيطر فيها الوسواس القهري على الشخصية مع عقدة تثبيت تقود لاستعمال الكلمة الواحدة بأكثر من معنى كما يحصل عند مرضى التوحد أو المصابين بالرهاب.

وهذا يذكرنا بعمله آنف الذكر (متاهة أخيرهم)، ففيه تصوير للإفلاس الأخلاقي ولحمى الكراهية والشهوة للدم. وكان تصويره للخراب يشبه عمل الندابة، إنه يرسم الفاجعة ويزيد من إحساسنا بها ويحول سيول الدماء والعنف إلى طقس تضحية يعمل على تحويل الهدف من الموضوع إلى الذات. وللتوضيح إنه يجعل من التراجيديا محنة يعاني منها الأشخاص أو أبطال الحكاية.

وبتعبير جون ماكوري كانت الأحداث تفتقر لمجريات الحياة اليومية (4) . يعني إنها تتابع الحوادث الجسيمة، الخطايا وليس الأخطاء، والنكبة وليس الخسارة، والغيبة الوجودية التي تتساوى مع العدم وليس الاختفاء والتواري.

وإذا كان لا بد لنا من أن نتساءل: ما هو المقصود من هذا الإسراف بالسادية؟. هل يشير للنزاع بين الأقليات والنظام في بلاد الرافدين؟.

من الجائر أن نقرأ عملا فنيا رؤيويا بهذه البساطة والمباشرة، وخارج السياق، ولا سيما أن أجواء الشرق كله مشحونة بالنزاعات. أضف لذلك أن الرواية لا تخلو من إشارات ذات معنى لمكة وخراسان ثم دمشق ونواحيها. وهذا يوسع رقعة التفسير ويعمم الإشكالية، ويحولها من مجرد تحليل سياسي فوري إلى تفكيك لخريطة النزاع مع رسم لتضاريس العقل العربي وعلاقته بالواقع.

لقد فعل ذلك حميد العقابي في معظم أعماله. ومع أنه كان أوضح في الإشارة للمشكلة العرقية والطائفية، لكنه لم يوفر أي جهد في الترفع عن لغة البروباغاندا والعمل على تجريد الصور والأفكار. وأفضل مثال على ذلك روايته المتميزة (المرآة) ثم سيرته الذاتية (أقتفي أثري). فقد مدد مساحة الأحداث من بغداد والبصرة لتشمل مرتفعات كردستان ومناطق الغابات والثلوج في إيران. وهذا يحرر للرواية وثيقة براءة من أي تأثير ممكن لمدرسة جرجي زيدان. فقد كانت سلسلة روايات تاريخ الإسلام المشهورة تعتمد أساسا على التشويق والتسلية، مع كثير من الاختراقات لجسم المدونة، وكثير من الاجتهادات، إنما ليس بهدف ملء الفراغات لو وجدت، وإنما لتحقيق مبدأ مادية الواقع وعدم تعاليه على الموضوع. إن تعقيم المدونة من شبهة أنها مقدسة، ولها أهمية ومعنى وحي لا يمكن المساس به أو الشك بمصداقيته كان واجبا تنويريا. وأعتقد أن ما يفعله محمد الأحمد هنا يدخل في مضمار موجة التنوير الثانية. فهو يعمل جهده كي لا تتحول الحداثة إلى نشاط محافظ وبارد ويكرر نفسه. ولذلك استعمل نفس أساليب الحداثة الكلاسيكية، وهي تكنيك الأصوات وأسلوب اللاشعور، وجرّدها بشكل قراءة من درجة لاحقة. بمعنى أنه كان يبني نصه على نصوص افتراضية أو مخطوطات. وكانت هذه هي الحبكة أو الحجرة التي ألقاها في الماء الراكد.

وبالاستطراد..

من بين أهم حكايات الرواية مشكلة المخطوطة التي تعاملت معها السلطات كأنها منشورات سرية، وطاردت حاملها، وأودعته رهن الاعتقال. وبهذه الحكاية رفعت الستار عن حقائق الحاكم وعن مجونه وعن خبايا السجون التي يديرها.

لكن لا أريد أن يفهم أحد أن الرواية اهتمت بمجتمع الكوفة وحياة أهلها. فقد اقتصرت الشخصيات والأحداث على النخبة الحاكمة. وكانت التطورات تدور بين أربعة جدران يصعب للعامة أن يصلوا إليها. وقد أسهب محمد الأحمد بما فيه الكفاية في وصف التكتم على حياة الوالي وصعوبة دخول أحد إلى بلاطه (ص20). ناهيك عن مشكلة الخروج منه. فالداخل ميت كما يقول بالحرف الواحد، ولا يخرج أحد إلا إذا أسعفه الحظ (ص15). بمعنى أن شخصه مثل لسان النار، إن اقتربت يكشف خباياك ويجعلك عرضة لعيون البصاصين والرقباء، وإن اقتربت أكثر تحترق أو تموت وتتحول حياتك لحفنة من الرماد.

وبالنظر لهذا الجو أجد أن رواية (دمه) هي في الواقع جزء من الإضافات الفنية لموجة إحياء الأدب القوطي. فالأبنية تزينها الشمعدانات المبهرة (ص15)، وتحيط بغرفة الإمارة جدران سود وبلا نوافذ، وتتراقص على أرضها الظلال، ويقود إليها باب من الخشب الثقيل الذي يصر صريرا (ص15). مع جرعة مزدوجة من مشاعر الرهبة والشك. وكل ذلك يضعها ضمن فلسفة بلاغية شديدة التعقيد تهتم بمشكلة العقل المؤجل. بتعبير آخر. إنها تحاكي (باللاشعور) ما تفعله على سبيل المثال الرواية الفكتورية المعاصرة. وفي الذهن أعمال سارة ووترز. وعلى الرغم من أن روايات ووترز تهتم باللامفكر به، لأسباب الحياء والخجل، وأقصد تحديدا الغرام المثلي بين النساء، لكن أن تضع التاريخ في المقدمة، وانحرافات المجتمع الراهن في الخلفية، يساعد على كشف مناطق الخلل في حياتنا الراهنة، والإجراءات المطلوبة لتحاشي المزيد من التورط والسقوط.

وأعتقد أن هذا ما نذرت رواية (دمه) نفسها له. فهي كلام مبطن عن الطغيان ودورة العنف وما يقوداننا له من نكبات ومصائب.

وسيتابع محمد الأحمد تفكيك هذه الثنائية المعقدة في روايته القادمة (ليلى والحاج)(5). و فيها لا يكتفي بالإشارة لصراع المدونة مع الواقع، ولكنه يضيف نقطة بغاية الأهمية، وهي قراءة الحاضر بصيغة الماضي. بمعنى أنه نظر لماضينا بعين الشك، وألغى أية ميول نحو تدويره أو استعادته. فالماضي في هذه الرواية خطيئة، وليس هو "فردوسنا المفقود". وما يهمنا بهذا الصدد هو طريقة بناء الرواية. فهي أشبه بفرن أو معمل استند على عناصر الواقع الطبيعي الذي قدمه في (متاهة أخيرهم) مع المشاهد التي تغطي حاضر وعي الشخصيات كما فعل في (دمه). وبهذه الطريقة استطاع إضاءة العتمات التي تهيّب من الولوج إليها في (دمه). لقد وضع غريزة الحياة الطبيعية إلى جوار غريزة الموت المتعمد لتقديم قراءة أعمق عن صراع الإنسان مع تاريخه.

 

د. صالح الرزوق

................................

1- دمه. محمد الأحمد. دار فضاءات. عمان. 2018.

3- تغييب الذاكرة في خطاب ما بعد الاستعمار. حمزة عليوي. مجلة العلوم الإنسانية في جامعة بابل. مجلد 35، عدد 2، 2018.

3- النظرية الجمالية: المؤلف والبطل في الفعل الجمالي. ميخائيل باختين. ترجمة عقبة زيدان. دار نينوى. دمشق. 2017..

4- الوجودية. جون ماكوري. ترجمة امام عبدالفتاح امام. سلسلة عالم المعرفة. الكويت. 1982.

5- رواية مخطوطة قيد الطباعة، وستصدر قريبا.

 

في المثقف اليوم