أقلام حرة

لا ثقافة في زمن الثِقافة!!

صادق السامرائيكان لي صديق إبتلعته آفات الأيام، وطاردته هموم الأحلام فغاب في غياهب الأزمان. ذكر لي ذلك الصديق، أنه قد شارك لأربع مرات متواصلة في مسابقات للرواية في زمن الحرب الثُمانية الويلات، وفي كل مرة لا يفوز بأية جائزة، فاشتد غضبه وعزم على أن يواجه مدير الدائرة الثقافية المعنية بالأمر، وأتيحت له فرصة لقائه عن طريق صديق، وكان ذلك المدير متفهما وحاذقا، وقد إفترسته آفات الكراسي بعد أعوام.

وأضاف صديقي، فواجهته وقلت له بإنفعال: لماذا لا تحصل رواياتي على أي شيئ، وأنتم تعلنون فوز روايات ليست أفضل من رواياتي وفيها ما لا يتفق وطبيعة الأشياء؟

قال فحدق بوجهي مندهشا وقال: قرأت رواياتك، وكذلك فعلت اللجنة التحكيمية، وفي كل مرة يكون التعليق عليها بأنها  إنسانية صادقة تصور الطبيعة البشرية بدقة متناهية.

فقاطعه صديقي قائلا: وماذا تريدون أكثر من هذا؟

فأجابه: يبدو أنك لا تدرك الغاية الحقيقية وراء هذه المسابقات، إنها تريد روايات تعبوية.

فقال له صديقي وكأنه لا يعرف المعنى: وماذا تقصد؟

فقال له: نريد روايات معركة، تمجّد القتال وتحببه، وتدفع البشر إليه، وتمجّد إرادة الموت وضرورته وأهميته وكذا وكذا، ورواياتك تتحدث عن المشاعر الإنسانية، وتصفها بدقة في حالة مواجهة الإنسان للموت، وهذا يعني أنك تثبط العزائم، ولايمكن السماح لمثل ذلك أن يُنشر، وإياك أن تتجرأ على طباعة أي رواية من رواياتك.

قال صديقي: خرجت مصعوقا، وأدركت أن المطلوب هو إبداع الكذب والتحريف وليس غير، وخشيت على مصيري.

ومنذ ذلك اليوم كسر صديقي قلمه وقرر أن لا يكتب أبدا، وأصبح في عرفه أن البلاد صحراء لا تنبت فيها إلا الأشواك الفكرية ولا يمكن القول بوجود ثقافة.

تذكرت صديقي الذي ذاب في تراب الصمت والغياب الأبيد، وأنا أقرأ ما يُكتب على صفحات بعض المواقع، وما يدور من كلام عن الثقافة ومَن سيقودها وكأننا نمتلك ثقافة كما نتوهم ونتصور.

فانظروا إلى ما عندكم من كتب، واحسبوا عدد الكتب التي يكتبها كتاب البلاد وما هي نسبتها بالمقارنة بالكتب الأخرى التي تقرؤونها، وستجدون أنكم لا تقرؤون لكتّاب من بلادكم وإنما لكتّاب من خارجها، وسبب ذلك أننا لا نعتقد في أعماق لا وعينا وإدراكنا بوجود ثقافة وطنية.

وأبسط مقارنة ما بين مصر وبلادنا، ستكشف عن هذا المأزق، ففي مصر هناك ثقافة وطنية إنسانية ولهذا أنجبت أعلاما كبارا في مجالات الثقافة كافة وقرأنا لهم وتربينا على أقلامهم.

أما في بلادنا فلا توجد إلا الثقافة التعبوية!!

ثقافة الكراسي والأحزاب والفئات والصورة والقوة، ثقافة النيل من الإنسان، وتدمير وجوده وإمتلاكه وإستعباده ومصادرة حقوقه والفتك به.

ثقافة الإنفعال والتنكيل والظلم والقهر والأحزان.

ثقافة الفردية والشخصانية وغيرها من الثقافات الضارة.

تأملوا ما كتبناه منذ  عام ألفين وثلاثة وحتى اليوم، فلن تجدوا في ذلك ما يؤسس لثقافة وطنية إنسانية، وإنما خِناق ومشاجرة وعِراك، وتكاد تغيب تماما كتابات معالجة الظاهرة والحاجة الإنسانية ومعاناة الناس اليومية.

كتابات غضب وإنفعال سلبي، فما أن يكتب أحدهم عن شخص أو كرسي ما أو فئة حتى تهب الأقلام وتتعامل معه بأساليب شديدة، أما الذي يكتب عن ظاهرة وقيمة وفكرة ويعالج مشكلة عامة، فأن ما يكتبه لا ينال النظر والإنتباه.

ذلك أن ثقافتنا لا زالت غير وطنية، بمعنى أنها لا تأخذ بنظر الإعتبار البلاد كوطن وقيمة وقوة وإنتماء ومنهج، والمواطنة كصفة أساسية عُليا تتفوق على أية صفة وعنوان، وتدفع للكتابة عن صميم المقاساة والمعاناة للإنسان المواطن وليس عن أشياء أخرى.

وفي هذا الخضم ننسى بأننا لازلنا نعيش حالة الثقافة التعبوية التي ترسي دعائم الكراسي والصور والأشخاص والمصالح والمطامع، وتنأى بعيدا عن الوطن والمواطن وما يعانيه ويحتاجه.

فهل غيّرت كتاباتنا واقع الحال؟!

كتاباتنا التي حولتها التوجهات التعبوية إلى كتابات خنادق متقابلة، وأفرغتها من محتواها ومعانيها لأنها تتقاطع مع منهج القضية المفروضة والمطلوبة.

فهل توفرت الكهرباء والماء الصالح للشرب وتناقصت البطالة، وتأمّن السكن اللائق والنقل المريح وتم إنشاء المشاريع اللازمة للحياة الأفضل؟

وهل تمكنا من التعبير الصحيح عن الديمقراطية ؟

وهل إنتصرنا على طاعون الويلات والتداعيات الكرسوية؟

فما هو مرسوم يتحقق رغما عن جميع الكُتاب والمدعين بغير ذلك!!

وما هو مطلوب يتم إثباته!!

ولا بد من ترسيخ مفاهيم التعبئة اللازمة للمرحلة، فلكل مرحلة مادة يتم تعبئتها في أوعية البشر بعد أن يتم تفريغهم مما كان معبئا فيهم.

وهكذا فأننا أمام مسيرة تعبوية تساهم في تأمين الحالة المطلوبة وتحقيق الأهداف المرغوبة.

وحسب الأقلام  الصادقة الحرة الشريفة أن تكتب،  ولن تكون هناك ثقافة، إن لم نؤمن بالوطن وبالمواطنة وبالمواطن ونصون كرامته وعزته وحريته وحقوقه.

وإن لم نتحرر من قيد الكرسي والصورة والشخص والتحزبية والفئوية،  وتتمكن الأقلام من التفاعل الإنساني الصادق الصحيح الحر النزيه الطاهر الخالص مع الإبداع والمعرفة والإنسان،  فلا يحق لنا أن نتحدث عن ثقافة بحجم الوطن والإنسان كقيمة، وعن قادة يليقون بالوطن والمواطن الإنسان.

فالثقافة لا تحتاج لوزير إذا كانت حقا ثقافة، فلماذا ننشغل بمَن سيكون وزيرا للثقافة وهي كسرابٍ في رمضاء زمان أجيرٍ؟!!

مع خالص التقدير والإحترام للأقلام التي ساهمت في زيادة مساحة النور وتعميق الوعي والإدراك الإنساني النبيل.

*الثِقافة: الملاعبة بالسيف، المخاصمة

ثِقاف: خِصام

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم