أقلام حرة

التمرّد والتشظّي في شعرية محمد همزان.. قراءة في ديوان: يوميات الوجد والغربة

الحسين اخدوشأصدر الشاعر المغربي محمد همزان ديوانه الشعري الأول بعنوان "يوميات الوجد والغربة"، عن مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر، سنة2017  ببيروت في لبنان، وذلك بعد مسيرة شعرية متقطّعة من حيث التراكم الشعري. ويعدّ هذا العمل الإبداعي الفريد ثمرة تأملات هذا الشاعر الشاب الخاصّة، وقد ضمّنه بوحه بتجربته الوجدانية وكذا انفعالاته الوجودية والعاطفية، سواء منها المتعلّقة ببلده الأصلي المغرب، أو تلك التي خاضها في بلاد المهجر بالولايات المتحدّة الأمريكية.

يلاحظ المتصفّح لهذا الديوان تحرير صاحبه لذاته من القيود والقوالب الفنية والشكلية الجاهزة. وقد اتضح لنا أيضا أنّ التسرّع في قراءته، حسب ما استشف لنا، قد يفضي بالقارئ المتسرّع إلى اتهام هذا الشاعر المغمور بالغموض، وخاصّة إذا كان هذا القارئ ممّن يولي الاعتبار للجوانب الشكلية على حساب المضمون والأفكار. ولقد تساءلت شخصيا وأنا أقرأه حول كيفية فهم مقاصد الشاعر وراء كلّ ذلك الحجم من الانزياح والاستعارات الموجودة في هذا الديوان؟

يظهر لي، بصفة شخصية، أنّ تقديم هذا العمل الإبداعي الجديد يمكن أن ينطلق من منطلقين أساسيين، أرى أنّ لهما الأهمية البالغة في فهم الخلفيات الإبداعية لصاحبه. أوّلهما، ويكمن في مهمّة الكتابة الإبداعية ودورها في إبراز ملامح تشكّل وتطوّر ثقافتنا الأدبية المغربية المعاصرة، بينما يخصّ الثاني ملامسة ماهية الإبداع الشعري ومهمّة الشعر من خلال تجربة هذا الشاعر المغمور.

تؤكّد طريقة كتابة هذا الشاعر خاصية فريدة للشعرية، وهي أنّها غير ملزمة أن تكون مجرّد تقييد أو تعبير عن مكنونات الذات، ولا هي وسيلة للتنفيس عن الإحباط النفسي. وإنّما الكتابة كما ينبغي أن تمارس يجب أن تتفادى الوظائف السهلة المعتادة، كما في الأساليب التعبيرية المكرّرة غير الشخصية. فالشاعر وهو يحرّر شعره، هنا، يكتب دونما اللجوء إلى المراجع وتجارب الآخرين؛ إنّه يكتب بأسلوب شخصي، فيصنع الفرق بينه وبين وغيره. نلقى حضور هذه الخاصية في شعر محمد همزان في كثير من مقاطعه الشعرية، من بينها، مثلا، مقطع معنون ب "هكذا يكتبني الشوق"، حيث يصرّح في المقطع المعنون هكذا يكتبني الشوق" (ص 54):

نَمْ واستَرِح

وأقتل الذّل بين الجنبات

نَمْ وَمُتْ

حتى لا يتحرّر العبيد

(...)

نم

فإنّي آت

لا محالة

تكشف هنا صيغة "الأمر" (نَم) المرتد إلى الذات عن حالة تمزّق الوعي والوجدان من خلال الجمع بين المتناقضات: النوم / الموت، التحرّر/ العبيد؛ وهذه مسألة، كما نعلم، تحمل مفارقة التنافي بين الموت والحياة، العبودية والحرية. يكتب الشاعر هنا ولسان حاله يقول بأنّنا نحن المتذمرون نكتب برداءة، لكن نحقّق الحرية من خلال ما نكتبه على الأقل!" هي، إذاً، عملية محاربة إنشاء اللغة أو لغة الإنشاء، كما يصرّح نفسه في تصدير ديوانه، عندما ينزع لتأكيد حرّيته فيما يكتب ممّا يفرّق بينه وبين الآخرين.

نكتب كما نشعر، ونفكر كما نحسّ، كذا يقول لسان حال هذا الشاعر الذي ينثر الشعر بلا مهادنات في إصداره الأوّل. وهذه الطريقة في الكتابة تجعل القارئ يستنتج أنّ حدّة الإحساس ورهافته يولّد الحاجة إلى التصويب نحو الأوهام، لعلّها تسقط تباعا. ولقد أشار الشاعر نفسه إلى شيء من هذا الأمر، عندما يشير فيما كتبه إلى أنّه ليس تكرارا لتجارب تغترب فيها لغته، وإنّما ينطلق من مبدأ نفسي لديه يمثل هذا الإحساس الدائم بالاغتراب الذي تصدر عنه عباراته الدفينة؛ وهو موقف ذاتي متأصل في وجدانه، ناجم عن اصطدامه بالواقع، وغربته عنه، كما يجسّده المقطع المعنون "أغرق في الصمت" (ص105):

لا تسألينني كيف أغرق

في الصمت ..

هناك ..

يغرق فيَّ المكان والعمر

هكذا يكتب محمد همزان ! أسلوب مفارق، هدير من الاستعارات والانزياح الذي يجعل القارئ يصاب بالدهشة والغرابة وهو يقرأ له. إنّها عملية معقدة تحتاج إلى فهم سيكولوجي للشاعر باعتباره ذاك الشخص الموجوع بآلام الذات والآخرين. كيف لا وهو الكاتب الممزقة ذاته بين انكسارات الواقع، وطموح الذات اللانهائي. يكتب لأنه يحب الحياة، ولأنه يريد أن يُحْمِل كلّ كلماته على التعبير عن أشياء مختلفة ومتناقضة، أي كلّ تلك أشياء التي يعيشها بشكل يومي. ولذلك، فالكتابة الجيدة وفقا لما يتصوره هذا الشاعر الفيلسوف هي هذه القدرة على ترك الرسميات (النص ص 171):

انتبه لنفسك مهما غاليت

لا تكن مكابرا

وانسحب من جماعتك

التي تقامر

فلا خير في قوم

كلامهم المنابر

أفعالهم مظالم

وأرزاقهم محاجر 

يطرح هذا النموذج الشعري النثري سؤالا محرجا للقراء والنقاد، خاصّة حول من هو المبدع حقّا؟ وما الإبداع الشعري بالأخص؟ بل قد تدفعنا طريقة محمد هَمَزَان الشعرية نعترف أنه من طينة الكتاب الناقمين، الرافضين، المتذمرين، من كلّ ما يقع من حولنا من وقائع وأنماط وجود مترهّلة ومتخلّفة. ولعلّ هذا ما نصادفه كثيرا، ونحن نقرأ ديوان "يوميات الوجد والغربة" الذي افتتح به أعماله الشعرية الأولى، حيث الأماكن المظلمة كلّها حاضرة، بل وقلقه الكبير وتذمّره من وفرة القرف ووضاعة التخلّف يكادان ظهران في كلّ سطر أو مقطع شعري.

يفسّر هذا التشاؤم ولع صاحبنا بالعتمة ومدحه للظلمة، لا لأنه رجعي، أو من خفافيش الظلام، أو مجنون الليل، ولكن بالأساس لأنّه ذات مجروحة في كبريائها، ومريضة بقرف الواقع المتخلّف للسياقات الاجتماعية التي كبر وترعرع فيها. تقديرا لهذا الولع بنقد العبث الذي يسم هذا الواقع، نريد أن نعترف بالقيمة النقدية والفنية لفن الشعر كما يمارسه محمد همزان، وهو الذي يرفض أن تنحصر مهمّة الشعر في مجرّد الإمتاع والمؤانسة؛ حيث ما فتئ يعتبر التجميل البلاغي، والتحسين البديعي، مجرّد تزويق فجّ ومجّاني للشعر، خاصّة إذا لم يكن هذا الشعر مقرونا بالجدّية والصراحة والبراءة.

يتعارض أسلوب هذا الأخير في الكاتبة الشعرية كلية مع منطق الكتابة من أجل الكتابة، بل يحاول جاهدا أن يطرح نفسه بديلا عن المحاولات الكلاسيكية التي ترسم مسبقا حدودا معيّنة لفن الشعر من خلال تحقيق المتعة، أو مجرّد خدمة أغراض أيديولوجية معيّنة. لقد فقد الشعر بمثل هذه الاستعمالات أهم ميزة تخصّه، أهم سلاح يمكنه أن يستخدمه للخلود؛ أي الإبداع!

 يتوجب علينا، نحن القراء الذين لا يستهوينا هذا القرف المنتشر من حولنا أن لا ننتظر ما قد يأتي أو لا يأتي. علينا أن نتّحد مع أذواقنا، ونستعد لاستعمال هذه الإبر التي انغرست في جلودنا لوخز المزاج العام المريض، علّنا نوقض فيه الإبداع الحقيقي، هكذا يقول حال لسان شاعرنا محمد همزان: أيها المنهزمون هاهنا أولد شاعرا حرّاً رغما عن انف الظروف، أعلن حريّتي رغم ضربة الدهر، كما يقول عن ذلك (ص 184):

وإن نجوت من ضربة الدهر

تسلى بالعدم

حياتك في خطر

وفي ضجر

فاحتو الأمر

قبل القيامة

وقبل الوصاية،

تظهر هذه المحاولة الشعرية الهمزانية أنّها ليست مجرّد خروج عن مألوف الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، بل هي أيضا ابتداع لنوع مختلف وجديد في الكتابة الشعرية ذات المنحى النثري. إنّها شعرية منفلتة من قوالب الصنعة الفنية المتعارف عليها، وتكاد تكون متلبّسة بسيكولوجية صاحبها، ومزاج ذاتيته القلقة، والمقموعة، والمتشظية، فتمّردت على نفسها وعلى أعراف بيئتها وثقافتها المغربية المخترقة بالآخر المختلف.

تكمن فرادة شعرية محمد همزان، فيما اعتقد، في طابعها الاثباتي للذاتية الهشّة والمقموعة، المتشظية والواعية بهشاشتها؛ وهي تجسيد لوعي عميق بإشكالية الذات المخترقة بالحزن المتأصّل فيها. إنّها شعرية منفردة بكونها ليست مجرد كتابة على حواف الحياة، أو مجرّد السعي لتمثل الواقع الجاثم على قلب صاحبها في غرور أبدي قامع لكينونته؛ وإنّما، بالأساس، هي انفعال حادّ لوجدان هذا الأخير، أي صرخة مدوّية في وجه كلّ سلطوية قاهره، إنّها كتابة رغما عن الأنف كما كان يقول نيتشه.

 

 الحسين أخدوش

 

في المثقف اليوم