أقلام حرة

الإصلاح والإطلاح!!

صادق السامرائيطالح: فاسد

الإطلاح: الإفساد

دعوات الإصلاح الديني تتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر وتتنامى في القرن الحادي والعشرين، ويقول بها مفكرون من غير العرب والمسلمين، فينظّرون ويلقون المحاضرات ويكتبون ويؤلفون الكتب، ويمعنون بالتركيز على الإسلام كدين يجب إصلاحه لأنه لا يتفق وماهية الزمن المعاصر.

ويخلص العديد منهم إلى أن الإسلام دين لا يمكن إصلاحه وعلى العالم أن يتقبل نواعير الدماء والدموع، والصراعات التخريبية التدميرية المتفاقمة في بلاد المسلمين، أي أنهم يريدون القول بأن ما يحل بالعرب والمسلمين هو بسبب دينهم اللامستقيم اللامعاصر القديم!!

وفي هذا الإقتراب تسويغ عدواني وتبرير إهلاكي ودعوة لمزيد من البغضاء والكراهية والشرور، وفيه نزوع لإدامة التصارعات وتحويل بلاد العرب والمسلمين إلى سوح حروب وأسواق سلاح مفتوحة، كما أنه يكنز آليات إسقاطية وتعليلية للصراعات بأسباب لا تمت بصلة إليها، ولتسويغ المصالح والتسليح الإستنزافي للثروات.

وقد إنساق العرب المسلمون وراء هذه الدعوات والتوجهات العاصفة في الواقع الثقافي والفكري، وأمعن المفكرون والمثقفون بالبحث والإجتهاد والتحليل ومنهم مَن توصل إلى نتائج نافعة، ومنهم مَن أفضت به دراساته إلى اليأس والقنوط، والبعض الآخر إلى العدوان على الدين بمحاولات تبريرية تنسف جوهر الدين، وتمضي على إيقاع بعض المفكرين الغربيين الناقمين على الدين.

ومن المؤلم أن لا تجد تقييما منطقيا وواقعيا للطروحات، ولا مَن يتصدى لها بعقل منير وبأدلة ذات قيمة إدراكية ومحاججية رصينة، وإنما السائد أن الأغلبية تجري مع التيار وتزيده تدفقا وعنفوانا، وتجد مياهه ذات عذوبة وأنها ماء فرات!!

ولا بد من القول بأن الأديان والعقائد والأحزاب إنما جاءت للتعبير عن إرادة الخير، ولا يوجد واحد منها يقول بأنه يعبر عن إرادة الشر، وهذا ديدنها منذ الأزل وستمضي إلى الأبد.

فهل وجدتم دينا أو عقيدة أو حزبا يصرّح بأنه يمثل الشر ويسعى للتعبير عن الشرور؟

لم يحصل هذا في مسيرة البشرية، حتى جنكيز خان وهولاكو كانا يعبّران عن إرادة الخير وفقا لرؤيتهما، وكذلك جميع السفاحين والمستبدين والطغاة والمجرمين.

وفي الدين الواحد والحزب الواحد تتفرع كينونات ذات مسميات متنوعة، وكل منها يؤكد على أنه يعبر عن إرادة الخير، وضمن المسمى الواحد تكون المسميات ذات مواقف ضد بعضها، فتتصارع وتنسف ما يؤمن به الطرف الآخر منها.

ولهذا تجد في الأديان مذاهب ومدارس وفي الأحزاب إنشقاقات وتفرعات، وفي أي إتجاه تتخذه مجموعة من البشر هناك تفرّق، ذلك أن في البشر طاقة تنافر تتجمع وتتفاعل وتؤثر بفعلها وتنتهي إلى مرامها.

والأديان لا يمكنها أن تضبط السلوك البشري تماما مهما حاولت، لكنها قد تؤثر به بآليات أخلاقية وقيمية ومعايير ذات نتائج ردعية، ولهذا تجد في الأديان والمعتقدات مفهومي الحلال والحرام، أي الخير والشر، فالحلال هو الخير والحرام هو الشر، ولكل منهما نتائحه وعواقبه، فالخير يؤدي إلى ما هو جميل وسعيد والشر إلى ما هو قبيح وتعيس، ووفقا لذلك هناك الجنة والنار.

وبما أن الأديان منذ نشوئها لم تفلح بضبط السلوك البشري، رغم أن البعض منها فيه تشريعات واضحة للحلال والحرام، فأن البشرية قد سنّت القوانين ووضعت الدساتير منذ شريعة حمورابي وما قبله لضبط السلوك وتحديد العقوبات والمحفزات.

وهذا يعني أن الأديان قد تؤثر برسم خارطة السلوك، لكنها تعجز مهما كانت قوية وواضحة وراسخة من تحقيق إنضباطية عالية وإنسيابية دائبة للحفاظ على السلامة والأمن والأمان، وكلما زاد عدد البشر كلما ضعف دور الأديان في هذا الشأن، فهناك فرق ما بين دور الأديان في زمن نشأتها حيث عدد البشر يقاس بمئات الآلاف، وبين دورها اليوم وقد تجاوز سكان الأرض السبعة مليارات.

هذه حقيقة مغيبة ومهملة فيتصور المفكرون بأن الأديان لها ذات القدرة على لجم السلوك البشري وسط هذا العدد الهائل من الناس، ذلك أن أي سلوك مهما كان سيئا سيجد في تياره الآلاف المؤلفة الساعية لتأكيده، وفي زمن التواصلات الإجتماعية الفائقة السرعة فأن الحالة تتجسم وتتعاظم، وتنفلت إن صح التعبير.

ولا يوجد دين أو معتقد لم يتم إستعماله لتسويغ أفعال الشر والخير في وقت واحد، ولا يخلو دين من هذين الأمرين، ولهذا فأن القول بأن الدين غير صالح والعلة فيه، طرح بعيد عن الطبيعة السلوكية للبشر، فكل الأديان صالحة وقد تكون طالحة وفقا لآليات تسخيرها وتأويل ما فيها وكيفيات إستخدامها وما يتفق والنفوس التي تدعي المعرفة بها.

فلا يوجد دين أفضل من دين، ولا دين صالح ودين طالح، وإنما يوجد إقتراب متنوع ومتعدد، وجوهره أنه للخير طامح ولكل الناس صالح، ويقوم بما يقوم به من أعمال ويحسبها فعل خير وصلاح ورحمة، والآخر يراها غير ذلك، فأهل كل دين يعتبرون دينهم الأصلح والأفضل .

وعلى هذا المنوال فأن كافة الأديان والمعتقدات ستتواصل فيها الحركات والتنوعات الفئوية متواكبة مع زيادة أعداد البشر وإكتظاظهم فوق اليابسة.

ووفقا لما تقدم عندما نعود إلى موضوع الإصلاح علينا أن نتساءل عن إصلاح مَن وماذا؟

الأديان صالحة كما ترى نفسها ولا يوجد دين طالح، فهل المقصود إصلاح الصالح بمعنى تجريده من صلاحه وصلاحيته؟

فالأديان جاءت أو وضعت لإصلاح السلوك البشري والإرتقاء به إلى مستوى السلوك الإنساني الذي يتميز عن سلوك المخلوقات الأخرى، ومعظمها إن لم نقل جميعها قد عجزت عن الإرتقاء بالسلوك إلى مصاف الإنسانية العليا، لكنها نجحت وبنسب متفاوتة بالأخذ بالبشر إلى دروب العمل على تأكيد الرحمة والألفة والأخوة والسلام، والتقليل من سفك الدماء، والعمل على التعاون على البر والتقوى.

فالمشكلة هي ليست في الأديان وإنما بالبشر الحيران، الذي لا يؤمن بأن العمل الإنساني من الإيمان، البشر الغارق في نوازعه ورغباته، والقابع في أقبية النفس الأمّارة بالسوء والبغضاء والعدوان.

وعليه فأن القول بأن العلة في الإسلام طرح مجانب للحقيقة السلوكية للبشر، والتأكيد على أن العرب هم العاهة الكبرى في هذا الدين فيه مغالطة وإجحاف، فالعرب لا يختلفون عن غيرهم من البشر، وسيقوم جميع البشر بما يقومون به لو عاشوا في مواطنهم والعكس صحيح.

لكن السبب الجوهري الذي يغفله المفكرون الأجانب والباحثون وينساق وراءه المفكرون العرب، أن العرب يعيشون في دول لا تحترم القانون، وخالية من الدساتير ذات الفاعلية المؤثرة في الحياة، فأنظمة الحكم هي فوق القانون والدستور، وربما يمكن القول بأنها دول بلا دساتير وقوانين مؤثرة، ولهذا فأن المحسوبية والفساد والعديد من آفات التدمير السلوكي الفردي والجماعي مستشرية فيها ومتفاقمة.

أي أن السلوك الحاصل في البلاد العربية خصوصا ليس منبعه الإسلام وإنما ضعف القانون وإنتفاء حرمة الدستور، وتحوُّل الواقع إلى ميادين لصراع العصابات والمافيات، ولهذا ينتشر الغدر وتتعاظم التبعيات والخيانات، ويُترك المواطن في حيرته وتداعياته المريرة النكداء.

والأعظم من ذلك أن الدين تحول إلى مطية لإرضاء الرغبات والنوازع الشرهة النكراء، وتوفر له من الجهلة والأميين أدعياءٌ يتاجرون بالدين، ويحسبون الناس بضاعتهم ومصدر أرزاقهم، وبهذا يتحقق تشويه الدين وتحميله ما ليس فيه، حتى ليحسب الناظر للعرب على أنهم يمثلون الدين، وما هم كذلك.

فهل أن المنتمي لديانات أخرى يمثل الدين الذي ينتمي إليه، وهل يمكن القول بأن هذا المجتمع كذا وكذا وفقا لتوصيفات دينية، أم أن المجتمع يمثل دولته والنظام السياسي السائد فيه؟

إن الخلط بين السياسة والدين هو الذي جلب الضرر على الدين، وأوهم الآخرين بأن ما يحصل في بلاد العرب يمثل الدين، وما هو إلا حالة أخرى لا تمت بصلة للدين وإن إدعته وإمتطته وتاجرت به.

والمشكلة أن المثقفين والكتاب والمفكرين العرب، لا يخرجون من قبضة التوحل بأن العلة في الدين، وتلك مصيبة دين بأبنائه التائهين!!

والخلاصة أن المشكلة ليست في الدين وإنما في العجز عن التوصل لكتابة عقد إجتماعي يصون المجتمع، ويحافظ على مصالح المواطنين ويكفل حقوقهم ويبين واجباتهم ومسؤولياتهم تجاه بعضهم ووطنهم ومجتمعهم.

فالعلة في الفشل السياسي والتعليمي والتفاعلي ما بين أبناء المجتمع، وفي نشر ثقافات اليأس والإنكسار والضعف وتعطيل العقل، ولأنهم غير قادرين على العمل الجاد المتوثب يبررون ذلك بأن المشكلة في الدين، وهذا أفكٌ مبين!!

فالدين صالح والنظام السياسي هو الطالح!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم