أقلام حرة

أسئلة.. تبحث عن إجابات

محمد العباسي"الكينونة الآدمية لا تكتمل دون البحث والاستزادة من مناهل العلم.. ولو كان من منطلق العلم بالشيء فقط.. ويزداد الفرد منا إلحاحاً إذا ما أضطر لمسائلة النفس المتسببة في عذابه وشقائه.. وهذا الشقاء أمر لا بد منه للكثيرين ممن يستهوون فنون الكتابة.. لا بد لنا من مصدر للإلهام يستنهض فينا بنات الأفكار.. ويثير فينا شياطين الأشعار.. ونخلق تلك المسرحيات "السولو" محدّثين فيها أنفسنا أمام شموس الغروب والشروق في كل مساءٍ وصباح.. حتى تسكتن "شهرزاداتنا" عن الكلام المباح !" (من كتابي "مزيج" 2000). الفقرة السابقة كتبتها كمقدمة لقصيدة "أسئلة" وعنيت بها الشغف لدى البشر للعلم والتعلم.. وربما تكون مجموعة التساؤلات حول مهارات طرح الأسئلة أثارت عندي موضوع اليوم.

فالإنسان يتعلم من كل شيء وحدث وحديث من حوله.. وربما تكون الأسئلة من أهم أدوات وقنوات البحث عن المعلومات.. لذا تأتي أهمية إدراك مهارات طرح التساؤلات والأسئلة الصحيحة للولوج في مدارك الأمور.. وكذلك تكون أهمية من نسأل وكيف نتقبل الإجابات.. نقبل بها أو نرفضها حسب قناعاتنا.. فالسؤال المناسب يتطلب كماً من العلم والفهم ليتم طرحه بالشكل المناسب والسليم.. وبشكل كامل غير منقوص.. ونتوقع من السائل أن يتقبل الإجابات، فالإجابات عادة تكون مبنية على كيفية طرح الأسئلة في المقام الأول.. فالسائل يتحمل مسئولية طرح الأسئلة الصحيحة ليصل إلى الإجابات الشافية.. وقد تعلمنا كطلبة للعلم ومن ثم كأكاديميين أهمية فتح مجالات النقاش والسؤال والتساؤل لإثراء جو الاستزادة المعرفية.. لذا نتوقع من طلبة العلم الجامعيين بالذات أن يحضروا للمحاضرات جاهزين وبوعي ملم بجوانب الموضوع المبتغى فهمه بشكل مناسب.. لأنهم لن يتمكنوا من النقاش دون جهوزية مسبقة.. لن يعرفوا أغوار المادة العلمية ولذا لن يتمكنوا من طرح الأسئلة المناسبة والمفيدة المتعلقة بجوهر المحاضرة المعنية.

و أنا أكرر منذ حوالي 40 سنة مقولة "أننا كلما نزداد عِلماً.. نزداد جهلاً".. أي بمعنى أننا كلما تعلمنا أكثر نكتشف كم كنا نجهل.. وكم لا نزال نجهل.. ونتعلم أن كل علمنا مجرد نقطة في بحر واسع من المعارف والأمور التي لم نتعلمها بعد.. فنتواضع أمام هذه الحقيقة ونعترف بجهلنا ونعي كمّ علمنا البسيط! وقد نتعلم الكثير.. نتذكر القليل.. ونرفض أن يوصمنا أحد بصفة الجهل.. وفقط هم أصحاب العلم أعلم كم هم جهلاء!! (مقتطفة من مقدمة قصيدة "الجهل" من مجموعة "معاناة" 2001). فالجهلاء هم من يدّعون العلم بكل شيء لأنهم لا يعلمون كم يجهلون من أمور.. لذا يفشلون في طرح الأسئلة المناسبة بسبب جهلهم لما يجهلون.. هم فقط أصحاب العلم أدرى بقصورهم وهم فقط الأنجح في طرح الأسئلة المفيدة التي تثري علمهم.. فليس للتعلم حدود ولا تتوقف مراحل التعلم بعد نيل الدرجات العلمية مهما كانت عظيمة.. فشهادة الدكتوراة لا تعني أبداً أن الحاصل عليها قد بلغ أقصى قمم العلم.. بل هي مجرد درجة من الدرجات الأولى في مجال البحث وخطوة صغيرة في عالم المعرفة.. فصاحب الدكتوراة مجرد شخص نجح فى كسب "رخصة" و"إفادة" بأنه إكتسب أساسيات القيام بالبحوث العلمية.. بعد عدة سنوات من الإعتماد على الإرشاد والتوجيه من قبل المرشدين الأكاديميين الأسبق منه في مجاله.

عملية التعلم والمعرفة لا تتوقف عند حد.. وصاحب أعلى الدرجات العلمية الذي يعلق شهاداته في "براويز" مزخرفة في مكتبه، ومن ثم يضع "ساقاً على ساق" فخوراً مختالاً بألقابه العلمية، ويدّعي بلوغ أقصى درجات العلم، إنما هو من أعظم الجهلاء!! فالطبيب مثلاً لا يتوقف قط عن متابعة آخر المستجدات العلمية والطبية وكل جديد في عالم الصيدلة ومنتجات الأدوية.. المهندس عليه أن يبحث عن كل جديد في مجاله لتطوير مهاراته وقدراته.. الطيار لا يكتفي بتصاريحه لقيادة طائرات محددة فقط طوال حياته المهنية، بل عليه إجتياز إختبارات دورية وصعبة لتجديد رخصته و"تجويد" مهاراته.. وكذلك الأمر حتى مع المدرسين والأكاديميين، فالنظريات التعليمية تتجدد وتتطور كل يوم.. فبعض المدرسين يكتفون بشهادات وعلوم إكتسبوها قبل نصف قرن، ولم يفكروا قط من تلقاء أنفسهم في مسألة تطوير الذات!!

"أين نحن من هذا الكون اللامتناهي الأغوار.. المترامي الأطراف.. العميق.. الداكن الباطن.. الضارب بجذوره في أقاصي الزمن؟.. وككل الأمور التي كثيراً ما نحاول سبر أغوارها بالفلسفة والكثير من اللغو.. ككل المبهمات على عقولنا والعظيمة على طاقاتنا المتواضعة.. دائما نؤّولها حين نعجز عن الفهم إلى قوى أعظم منا وأكبر.. لربما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي فيه نعترف (من حيث لا نعي) بأننا لسنا سوى كائنات ضئيلة.. وأن مداركنا لا تتعدى حدود مدارنا". (مقدمة قصيدة "الوجود" من مجموعة "مزيج" 2000). لكن الواقع والمنطق يؤكدان لنا أن مداركنا لا يجب أن تكتفي ببعض العلم.. وربما هم هؤلاء الذي أعنيهم وأرصدهم وأوجه لهم رسالتي حول مهارات طرح الأسئلة.. ففاقد الرغبة الذاتية في طرح الأسئلة لا يعلم بكم جهله.. والمكتفي بدرجة علمه يفتقر لطموح التطوير والمعرفة.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. ولن يتقبل من الآخرين أن يطرحوا أسئلتهم، ولن يكون منفتحاً للولوج في نقاشات والتفكير خارج إطار علمه المحدود. فقد خلقنا الله وإستخلفنا في الأرض وميّزنا عن كل الدواب بالعقل واللسان والقدرة اللامحدودة على التفكير والتساؤل البناء والسؤال والبحث والتطور. فالكاتب والمفكر والفيلسوف "ديكارت" قال: "أنا أفكر لذا أنا موجود". وأحب أن أختم هنا كإشادة بلب موضوعي هنا بالقول: "أنا أسأل لذا أنا موجود".. "لذا أنا إنسان"!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

  

في المثقف اليوم