أقلام حرة

الدِبْشِيّة وما أدراك ما هي!!

صادق السامرائييبدو أن اللهجة السامرائية ربما أقرب اللهجات إلى اللغة العربية الفصحى، فما هو دارج على لسان العامة أصله فصيح مع بعض التحوير البسيط، وكلمة "دبشية" و"دبشي"، كانت متداولة في لهجة أهالي سامراء وعند المَوْصليين.

وأول ما إنتبهت إليها، كانت لدينا مزرعة في منطقة "الحاوي" أو تسمى " حاوي البساط" وقد غمرتها المياه في السبعينات بسبب إقامة السدة الترابية  التي حصرت المياه ودفعتها بإتجاه منطقة الحاوي.

كنت في وقتها أحمل رقية كبيرة الحجم (دّنْ) قطفتها من المزرعة، فواجهني فلاحها قائلا " الدبشية ستنفطر في يديك"، ويقصد أنها ستنشق من شدة إرتوائها من الماء بأبسط حركة تتسبب بإهتزازها.

ففهمت أن الدبشية هي الرقية الكبيرة، ولا أعرف مدى صحة فهمي آنذاك، ولكن لماذا دبشية وليست رقيّة؟!!

وذات يوم في صباي كنت أنا وأخي الذي كان دون السادسة من العمر برفقة والدنا في زيارة للبدو الذين كانوا يرعون أغنامه، وقد جاءني أخي الصغير مذعورا من داخل بيت الشَعر وهو يقول " إنها تريد أن تذبح لي دبشية"، وقد تصور أن الدبشية حيوان أو شيئ ما غريب عليه، فهدأت من روعه وأفهمته بأنها تقصد رقية.

واليوم لا أعرف لماذا حضرت كلمة "دبشية" في مخيلتي وراحت تضغط وتريدني أن أتناولها كموضوع، فتساءلت عن معانيها ورحت أبحث عنها!!

حسبتها تركية أو فارسية وربما هندية أو غيرها  لكني لم أجد لها أصلا في اللغات الأخرى، ومن الصعب ربطها بالرقي، لكن الرقي في مدينتنا يسمى أحيانا " دبشي" ولا أعرف هل لا تزال هذه التسمية مستعملة.

فذهبت إلى معاجم اللغة العربية، وفقا لنظريتي بأن اللهجة السامرائية أقرب إلى الفصحى من اللهجات الأخرى، فلنبحر في معانيها المعجمية.

دبَشِ جمعها أدباش.

دبشِ الجراد الأرض: أكل كلآها

وسيل دبّاش: عظيم يجرف كل شيئ

أرض مدبوشة: إذا أكل الجراد نبتها

دبشت الأرض دبشا إذا أكل ما عليها من نبات.

دبشة: أكلة

دبشه: قشّره

دبش الطعام: أكله

دَبْشَة: قطع الحجارة الكبيرة

في اللهجة السامرائية يُقال" نكسر الرقية"، أي نشقها بالسكين، ولا يُقال "نذبحها" فهذا قول غريب وشاذ، والذبح له علاقة بالدم، وربما أشارت تلك البدوية إلى أن الرقية حمراء مثل الدم، ولهذا تم الربط بين الذبح والسائل الأحمر الذي سيخرج منها أثناء شقها بالسكين.

والمعنى أنها رقية كبيرة مرتوية حمراء المحتوى وليست "بورانية" يعني بيضاء المحتوى  أو " نص حباية" وتعني وردية اللون وليست حمراء وبذورها لم تبلغ النضج!!

و"ركي عالسكين" مصطلح معروف عند باعة الرقي، أي أنه يكون أحمر اللون ويقطر دما، والبائع واثق من ذلك فيشقها بالسكين أمام المشتري .

وعودة إلى معنى "دبشية"، أنها رقية كبيرة الحجم وتطعم عددا من الناس ومرتوية تماما، أو كأنها شربت الماء الكثير أو إن شئت " شفطته" فتعاظم حجمها واحتقن فيها عصيرها لدرجة أنها ستتشقق أو ستتفطر وستتفلع لأبسط حركة تهزها، وكأنها تنفجر.

وكلمة "دِبَشْ" أيضا تطلق على البهائم لأنها تدبش الأرض أي تأكل ما عليها، ويُقال لبعض الناس   " دِبّشْ" أي أنهم نهامون ولا يعرفون سوى الأكل، فهم يأكلون كل شيئ و " يلحفون" أي يأخذون ما تقع عليه أيديهم.

 والتدبيش سلوك واضح في العديد من الأنظمة المسيطرة على الحكم في المجتمعات التي ينخرها الفساد ويعم فيها الدمار والإحتراب، فلا تجد غير الدباشيين الذين ينهبون ويسلبون ويستحوذون على ممتلكات الناس ويصادرون حقوقهم، ويؤسسون لأنظمة تدبش أوطانها كما يدبش الجراد الأرض المزروعة.

وهناك الكراسي " الدبّاشة" التي تمعن بالسرقات والخاوات وغيرها من السلوكيات العدوانية على حقوق الآخرين، وتتبجح بما ليس فيها وتمضي في إهلاك البلاد والعباد.

ومن أفظع النوازل التي تصيب الأمم والشعوب أن يسيطر عليها الأدباش،أو الدوابش،  لأنهم سيدبشون كل شيئ، وسيتركونها جرداء خاوية ذات بؤس وقحط وخراب.

فهل نعيش في زمن دبشاوي الطباع؟!!

وهل أن الدوابش في الكراسي، وحولهم أعلام؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم