أقلام حرة

تداول مسجات "الواتسآب" الغثة ومضارها

محمد العباسييقولون بأن كل شيء معروض استخدامه بالمجان نكون نحن ضحايا التسويق الغير مباشر، بل نحن "البضاعة" المعروضة.. والفكرة أن الشركات الضخمة التي تشتري مثلاً تلك المواقع الإلكترونية أو التطبيقات الذكية ثم تتركها في متناول أيدينا بالمجان، لا بد وأن لها فائدة مكتسبة من وراء هذه الخدمات.. وكثيرة هي هذه المواقع والتطبيقات، والعجيب في الأمر أن أغلبها غير محمية من المتسللين و"الهاكرز" ومن بائعي الأوهام والباحثين عن البسطاء ممن تنطلي عليهم الوعود بالثراء وكسب الملايين، وهكذا.  فالعيب يكمن في حين تكون الأجهزة الذكية في متناول المستخدمين الأغبياء.. وهذا مجال شرحته مطولاً في مقالٍ سابق بعنوان "مفاتيح الأمان في فضاء الإنترنت" على هذه الصفحة.

أما اليوم، يدور موضوعي حول تلك الرسائل المتبادلة والمتداولة عبر خدمة "الواتسآب" وكل وسيلة تقع في خانتها، حيث الفضاء المفتوح للجميع وبكل بساطة وسهولة لنشر الأفكار وتبادل الأخبار وإرسال الصور والتسجيلات و"الفيديوهات" والمواقع، وكل ما يخطر على البال من مراسلات.. قد تكون بعضها مثيرة ونافعة ومرحة، وأغلبها مجرد هباء ومضيعة للوقت ومفسدة ولا تزينا إلا هموماً وضغطاً وفلتاناً للأعصاب !!  وأيضاً نشرت مقالاً سابقاً هنا بعنوان "ملاحظات بشأن سوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعي".

 

وقد جهزت شخصياً في هاتفي رسالة أو قائمة أشرح فيها لأصدقائي على "الوتسآب" بعض هذه الجوانب التي أرجوهم ألا يرسلوها لي، ولا يخفى عليكم أن بعض الأصدقاء تجاوبوا معي بشكل إيجابي وآخرون ممن كان رد فعلهم عكسياً وكأنما أنتقدهم شخصياً وباتوا يتصيدون الفرص للرد على بعض مواضيعي بالانتقاد المضاد.. بعضهم يحاول الكف عن إرسال ما لا أرغب فيه من أمور، والبعض الآخر ربما لم يقرأوا قائمتي المرسلة لهم بالمرة، أو هكذا يبدو الوضع.. وفي حالات قليلة اضطررت لعمل "بلوك" لمن لم يتعظ ويكف عن "الإزعاج" الغير مبرر.

خدمة الـ"برودكاست":  هذه خدمة تسمح للمشاركين بعمل قائمة بأسماء مختارة من الأصدقاء حتى يتم إرسال الرسائل لهم بشكل جماعي.. وكم أكره هذه الخدمة بالذات عندما يتعلق الأمر بالرسائل اليومية التي تحمل التحيات الصباحية والمسائية، لأنها تكون جماعية وليس فيها خصوصية.. وكل صباح أتلقى حوالي 20 رسالة من هذا النوع، وكل منها عبارة عن صورة جميلة أو آيات قرآنية أو حكمة فاضلة.. كلها أمور جميلة فقط لو كان المرسل قد أرسلها لي شخصياً، وليس عبر قائمة البرودكاست لعشرات الأشخاص دفعة واحدة.. بل أن كثيراً يعيد البعض إرسال ما أرسله أنا لهم لأنهم يعيدون إرسالها عبر البرودكاست للجميع وأنا من ضمنهم.. هذه الخدمة مفيدة بشكل عام، ولكنني أفضل إرسال مراسلاتي للأصدقاء عبر الانتقاء المقنن.. فبعض المسائل لا تناسب كل شخص، فعلى سبيل المثال فقط، لا أرسل مواضيع تتعلق بالأطفال لشخص محروم من "الخلفة" حتى لا أثير عنده المواجع، وهكذا.

الدماء والجثث: ربما لست الوحيد في هذا الشأن.. فأنا لا أطيق صور الجثث والدماء وضحايا الحوادث والانتحار والتعذيب والتشويه والقتل وقطع الرقاب.. وقد ذكرت في مقالات عديدة انتقادات لعمليات القتل والتعذيب على أيدي الدواعش والحشود الشعبية والأنظمة القمعية سواء في العراق الحبيب أو في أرض الشام الغالية.. تؤلمني مناظر ضحايا التفجيرات والقصف والبراميل المتفجرة والألغام الأرضية.. لا أطيق صور الجثث المشوهة والمقطعة أوصالهم والأطفال والعجائز ممن يتم انتشالهم من بين ركام المباني المهدمة فوق رؤوسهم.. وأكره لقطات الضرب والتنكيل والتعذيب سواء كانت في مناطق الحروب والقتال أو كانت صور لرجال الأمن وهم يستجوبون ويعنّفون المقبوض عليهم في مراكز الاعتقال.. أتأثر شخصياً وبشكل سلبي جداً لمناظر الفلسطينيين أمام جحافل جنود الكيان الصهيوني، وأتألم كثيراً عند مشاهدة القبض على الأطفال الفلسطينيين من رماة الحجارة وهم يواجهون المدرعات والدبابات ويتم جرهم وصفعهم، وأتخيل مجبراً أن ما سيلاقونه من سوء المعاملة بعيداً عن الكاميرات سيكون أضعاف من نراه مصوراً.. وكذلك عشت أياماً من القهر والغضب بعد مشاهدة بعض اللقطات مما كان يفعله السجانون الأمريكيون في سجن "أبو غريب"، وما شاهدته من مناظر معتقل "غوانتنامو"، على سبيل المثال وليس الحصر.

سوء معاملة الأطفال:  وتحزنني المناظر المصورة لمعاملة بعض الخادمات لمن في عهدتهن من أطفال في غياب الأمهات.. كهذا قصص فيها الكثير من العبر بلا شك، لكن مشاهدة هذه اللقطات مؤلمة وقاسية وجارحة.. فالأطفال الضحايا لا حول لهم ولا قوة.. ومن المؤكد أن الخادمات لسن مؤهلات في الأساس لرعاية الصغار.. والعيب واللوم يقع على الأهل قبل الخدم، ولكن مشاهدة أي صور لسوء معاملة الأطفال الصغار تكون قاسية، ولا أحب مشاهدتها أبداً.. وكذلك الأمر مع قصص اغتصاب الأطفال من قبل بعض الذئاب البشرية.. وقصص قتل الأطفال في كافة أرجاء العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وقضايا خطف الأطفال وتجارة بيع الصغار وسرقة الأعضاء، وقصص الصغار ممن يعملون بالسخرة في مصانع السجاد اليدوي والملابس الرياضية في أرجاء "آسيا".. بشكل عام، أرفض مشاهدة الوتسآبات المتعلقة بالعنف الموجه ضد كل إنسان بغض النظر عن الجنس والعمر، لكن الضحايا الأطفال يثيرون لديّ المواجع أكثر من سواهم.

سوء معاملة الحيوانات: وهذا موضوع يتم تداوله أيضاً عبر "مسجات" الواتسآب والتويتر والفيسبوك وغيرها.. من المؤلم جداً أن نشاهد التعذيب الذي يمارسه البعض من قساة القلوب ضد الحيوانات البريئة دون رحمة ولا وازع من ضمير.. وكذلك الوضع مع المواضيع التي تتعلق بمصارعة الديوك أو الكلاب، بل وحتى مصارعة الثيران بالذات في دول محسوبة علينا بمدنيتها وتطورها الفكري والثقافي، مثل "إسبانيا".. ربما تكون بعض الدول قد سنّت القوانين ضد هذه الممارسات، لكن المشكلة لا تزال قائمة في بعض المجتمعات.. بل أن بعض المجتمعات المسلمة في "آسيا" لا تزال تمارس هذه المصارعات بين الثيران ضد بعضها البعض، وحتى بين الجِمال والإبل.. وكذلك أكره ممارسات صيد الحيوانات البرية في أفريقيا مثلاً تحت مسمى الرياضة.

الدين والمذاهب:  ومن الأمور التي لا أستسيغها أبداً هو تبادل المواضيع المتعلقة بالدين والسخرية من فتاوى رجال الدين "الجهلاء" ممن يفتون في كل جوانب الحياة بلا علم يقين.. وأغلب هذه المواضيع تكون مثار شكوك وليس من وراء نشرها فائدة ولا منفعة.. والمثير جداً أنني أتلقى من جماعتي من أهل السنة شتى أشكال التسجيلات لمشايخ أهل الطائفة الجعفرية التي تبدو شاذة وتعكس بعض الآراء الغريبة والخزعبلات والقدرات الخارقة المنسوبة جهلاً للأئمة الكرام "و لو من باب المغالاة في المحبة".. وأتلقى من رفاقي من الشيعة مواضيع تتعلق بالفتاوى التي يطلقها المشايخ السنة التي لا يبدو لها أي أساس من الصحة والعلم والمنطق.. فموضوع "رضاعة الكبير"، كمثال، أثار زوبعة من الآراء والسخرية لعدة سنوات تلت.. ومؤخراً تلقيت تسجيلاً لشخص يرتدي زياً أزهرياً يدّعي بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعاقر الخمر مع أصحابه.. وفي نفس فلك الاختلافات بين أصول ومفاهيم التيارات المذهبية تدور نقاشات جدلية عقيمة حول مواضيع تتعلق بالزواج العرفي وزواج المتعة والصيغة والزواج المؤقت وزواج المسيار والمسفار أو السياحي وزواج الدم، وكثيرة هي المسميات.. فهل "إحنا ناقصين" يعني، وما الفائدة المرجوة في تبادل كل هذه المواضيع المشكوك في صحتها ولا تنطلي على المؤمنين العقلاء؟

و أكثر ما يزعجني ويغيظني في الأمور الدينية التي تصلني عادة عبر مسجات الواتسآب عندما أتلقى قصص تتعلق برجل دين أو شيخ معمم أو حتى قس مسيحي رأى في منامه "رؤيا" وحلم كما يدّعى بالرسول أو المسيح أو أحد الأئمة وينقل لنا على لسانه فتوى أو نصيحة ما، ثم يأمرنا بنشر رسالته ويحدد لزوم إرسالها لعشرة أو مائة من المتلقين، وأن من يرسلها خالصة لوجه الله سيلقى ما يسره في القريب العاجل.. وطبعاً مع التهديد المبطن لمن يتجاهل رسالته بعذاب وسوء عاقبة ومرض وخسران، أيضاً في القريب العاجل!!

الأدوية ونصائح العلاج: ومن الرسائل المتداولة بين الناس عبر وسائل التواصل نصائح تتعلق بالأدوية أو تحذيرات من بعض الأدوية.. ويتداولونها ويعيدون إرسالها دون مراجعة لصحتها والتأكد من مصداقيتها.. وفي كثير من الأحيان يعود المرسل بأقوال معاكسة لرسالته الأولى بعد أن يتلقى من شخص مثلي مثلاً بإيضاح وتصحيح لمعلوماته.. والخوف أن لا تصل رسائل التصحيح لجميع المتلقين في الوقت المناسب وقد يكون بعضهم قد لجأ بالفعل لتجربة الدواء قبل التيقن التام لمدى مناسبته لحالته.  وكذلك يتم تداول العشرات من فيديوهات تتعلق بالأدوية الشعبية للسكر والضغط وحتى السرطانات الخبيثة.. وأنا شخصياً جربت الكثير من العلاجات الشعبية من خلال مسجات الواتسآب.. وأصارحكم القول بأنني شخصياً جربت كل الخلطات التي "يحلف" أصحابها بأنها ناجعة للسكر والشرايين والكلى مثلاً.. جربت غلي أوراق الزيتون.. جربت تنقيع التين في زيت الزيتون.. جربت غلي البقدونس.. جربت أكل نبتة الـ"كيل" (kale) .. جربت طحن قشر الرمان وغليه وشُرب ماءه.. جربت تناول كميات من القرفة (دارسين) المطحون مع القهوة والشاي.. جربت أكل الخيار الهندي المر (كيرلا).. جربت عصير الليمون العماني بقشره مع الثوم.. وبصراحة، كانت الحقيقة الوحيدة التي صدقت معي أنها خلطات قد لا تضر إن لم تنفع.. وفي الحقيقة أنها كلها لم تنفع.

التحذير من الأطعمة: البعض ومن باب نشر الفائدة يرسل مواضيع تتعلق بالأطعمة والمأكولات بقصد التوعية بمضارها على الصحة أو مخالفتها لتطبيق الشريعة دون مراعاة لمدى صدق تلك المعلومات.. فكثير من مثل هذه القضايا هي في الأساس من باب الدعاية والدعاية المضادة من الشركات المصنعة للبدائل التجارية..  فعبر الكثير من الرسائل المُحذرة بتنا اليوم في ريب شديد وشك و"وسوسة" من كل منتجات المشروبات الغازية وأغلب أنواع العصائر المعلبة والأجبان ومنتجات اللحوم والدواجن.. بل ونكاد نشك في كافة أنواع المياه المعدنية والصحية على أنها مجرد مياه عادية تفتقر لمحتوياتها من الأملاح والمعادن المفيدة كما تدّعيها الشركات المُصنعة.. بل يمكن القول بأن بعض المواضيع تتعلق بالإشارة لمخططات صهيونية وغربية لنشر الأمراض الخبيثة والعقم بين المسلمين عبر الأطعمة المعلبة والمدسوسة في عالمنا الإسلامي.. وحتى تلك القصص التي تتعلق بالرز المُصنع من أكياس النايلون والزيوت النباتية "المهدرجة" والنقانق و"البرجرات" المصنوعة من لحوم الحيوانات النافقة كالخيول والحمير والخنازير بعد هرس لحومها مع جلودها وعظامها وحوافرها.. والكل يفتي والكل يصدق!!

سخافات الكاميرات الخفية: ثم هنالك من يعيد إرسال سخافات وتفاهات وحركات على شاكلة "الكاميرا الخفية".. حيث يسخرون ويستهزؤون من ضحاياهم ويضايقون عامة الناس في الطرقات بحركات صبيانية "وقحة".. وأعتقد أن نشر هكذا فيديوهات إنما يشجع على التمادي في مثل هذه الحركات الغير مسئولة وفيها الكثير من الإهانة والمهانة وقلة الذوق.. وقلة الذوق هذه تنعكس بالتالي على مُرسلها وكل من يجد فيها مادة للضحك ولا يرى فيها ضيراً ولا أذى.. وكلها مواضيع تتنافى مع الأخلاق السليمة والذوق الرفيع.. وتكثر بيننا فيديوهات "الشماتة" في الآخرين عبر تصوير ونشر لقطات لحوادث السيارات وخناقات بين رواد المجمعات وتعثّر البعض وسقوطهم المؤلم واصطدام الأطفال بالأبواب الزجاجية.. أي كل ما يتعلق بالضحك على مصائب الغير ومواقفهم المحرجة.

وفي نفس السياق يتم تداول لقطات يقوم بتسجيلها بعض الشباب من أجل السخرية "السمجة" في أغلب الأحيان على أنها تمثيل كوميدي.. وهي عبارة عن لقطات تمثيلية هابطة لا تزيدنا علما ولا تغنينا بفائدة.. ومنها لقطات تسخر من بعض المعتوهين أو المتخلفين عقلياً لمجرد الضحك على ابتلاء الآخرين.. وكذلك السخرية من كبار السن وأقوال وأفعال الأطفال الأبرياء، دون أي اعتبار للتأثيرات النفسية عليهم عند انتشار تلك التسجيلات المصورة.

الرقص وهز الوسط: وبيننا عشاق لفيديوهات الرقص المبتذل وهز الوسط والأرداف بشكل "مقرف".. كلها تدخل باب الخلاعة والابتذال، بالذات حين يكون الراقص رجلاً من "أشباه الرجال"، وتراه يتلوى و"يتلوع" كفاجرة خبيثة وبشكل مقزز.. وأتمنى من الجميع الكف عن تداول هذه الفيديوهات لما فيها من وقاحة وقباحة حفاظاً على الذوق العام.

و ختم هنا بالنداء الخالص للجميع بالتريث قليلاً قبل الولوج في هكذا ممارسات.. فليس كل موضوع مناسب لكل الناس.. فمن باب احترامنا لأنفسنا ومن ثم احترامنا للمتلقين من أصدقائنا الكرام علينا أن نتقي الله فيما نرسل ونضع نصب أعيننا أهمية مراعاة مشاعر الآخرين وأن نكف عن نشر كل ما هو مبتذل وساقط.. أقول قولي هذا من باب المحبة الصادقة للجميع، وأشكر كل من يجتهد في اختيار منشوراته المتعقلة والمفيدة والرزينة.. وأشد على أيدي كل من يساهم في نشر المعرفة التي تزيدنا علماً وثقافة أو ترسم على محيانا الابتسامة وتبث فينا بوادر السعادة وتجمعنا على المحبة!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم