أقلام حرة

البارحَوية!!

صادق السامرائيالبارحة: الأمس

وما أشبه اليوم بالبارحة" مَثل يُضرب في جريان الأمور على وتيرة واحدة.

والمقصود بالمصطلح الميل للذي مضى وكأنه ما إنقضى، وإنما عليه أن يتنامى ويتفاعل ويؤثر في مسيرة الحياة في حاضرها ومستقبلها، وذلك لفقدان قدرات المُبارحة أي المغادرة أو الزوال.

فالإقامة في أقبية البارحة سلوك سائد في الواقع العربي ومدمر للوجود المعاصر ومتسبب بمتواليات من التداعيات الخسرانية المريرة القاسية، ويبدو كمعضلة حضارية مزمنة وعاهة تفاعلية مستوطنة في أرجاء المجتمعات العربية.

ترى لماذا نغطس في مستنقعات مضت ونعجز عن مبارحتها؟

 تأملوا آليات التفكير الطاغية على الخطابات بأنواعها، ستجدونها تشترك بأنها " بارحية"، أي تتغنى بالذي فات ولا ترى أن " ما فات مات"، ولا تؤمن " بما هو آتٍ آت"، وكأنها تجمدت أو تصملت وتحولت إلى مومياءات أو تحجرت في لحظة زمانية ومكانية، فأعجزتها عن التحرر من قبضتها الإهلاكية.

فالبارحوية إضطراب سلوكي نفسي بحاجة لبحث ودراسة وتشخيص، ومعالجات مستديمة للتشافي منه وإبصار معالم دروب المكان والزمان الذي نحاول أن نكون فيه، وما هو كائن فينا.

والبارحوية تبدو وكأنها حالة إنقطاعية، أو نوامية، أو كالسير أثناء النوم، ذلك أن المجتمعات مخدّرة بالأضاليل والتصورات البهتانية وتعصف في أرجاء وعيها ولا وعيها الأوهام المترسخة بآليات التكرار والإقران العاطفي الكثيف، مما جعلها الملاذ الأقرب والأسهل للهروب من الشعور بالهزيمة والضعف والعجز والتحيّن في بركة الذي لا يمكن تغييره أو التأثير فيه، لأنه من أولاد وبنات البارحة.

وللمتاجرين بالأديان دورهم الكبير والفعال في ترسيخ الإضطراب السلوكي المنغمس في أطيان البارحة، لأنه يعود عليهم بأرباح مادية ومعنوية، ويزيد من قدراتهم على إستعباد الناس وإمتلاك مصيرهم.

كما أن العديد من الكتاب لهم مساهماتهم في تعزيز هذا السلوك المَرضي، وتحويله إلى عاهة مستشرية ومتوطنة في مسيرات الأجيال، لأن إبداعاتهم وتحليلاتهم تنطلق من مفردات تكرارية غابرة لاكتها أقلام الكتاب آلاف المرات على مر القرون والعصور، فلا فرق بين ما يتناولونه اليوم وما تناوله الكتاب والشعراء قبل عدة قرون، وإن تغيرت المفردات والأساليب، لكن الجوهر ذاته والفحوى كما كانت، وما تحقق سوى أن سلوك البارحة قد تعزز وتطور وتفشى وأصبح ميزة عاهوية مروعة بفضل جدهم وإجتهادهم الذي يستثمر عناصرها وآلياتها.

ولهذا فأن المسؤولية تقع على القادة والمُنوِّرين في المجتمع، إذ عليهم أن يعيدوا النظر بما يفكرون به ويتوجهون إليه، وأن يجتهدوا في قطع مشيمة البارحة وتأهيل الناس للتفاعل المعاصر مع يومهم وتحديات زمانهم ومكانهم، بعيدا عن الولولة والتشكي والتظلم والشعور بالعجز والدونية والإنكسارية وفقدان الثقة بالنفس والعمل.

وبهذا يمكن المبارحة والإنطلاق إلى ما هو أجدى وأنفع وأرقى، فالناس المبرمجة وفقا لآليات البارحة لابد من إعادة برمجتمها لتكون متوافقة مع واقعها الزماني والمكاني المشحون بالتحديات والإنجازات الأصيلة.

فهل من غيرة على الحاضر والمستقبل؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم