أقلام حرة

المولود الموؤد

محمد العباسيقرأت مؤخراً تعليقاً صغيراً على "الإنستغرام" إستوقفني وأطلق في مخيلتي الكثير من التساؤلات!!  "المولود يدخل الدنيا من غير خيار ولا إختيار"..نعم ،  ففي لحظاته الأولى يكون موصوماً بجنسيته ولون بشرته وملامحه.. يتم إضفاء إسم عليه ليس من إختياره وليس له في ذلك قرار.. وينطق بلسان جماعته ويرتدي ما يرتدون من أنواع الثياب.. ويُسجل في أوراقه دينه ومذهبه رغم أنه لا رأي له ولا علم ولا خيار.. ويجد نفسه موصوماً بتبعيته لملةٍ ودين ومذهب وطائفة.. ويتوقع منه أهله وعشيرته طوال عمره أن يتبع ملتهم دون سؤال.. أن ينصاع لكل ما يقال.. أن يؤمن بكل ما هو محرم عندهم أو حلال.. من يوم ولادته حتى الزوال !! 

تصوروا معي مولوداً يخرج للدنيا حيثما كان.. فيكون موصوماً بملامحه الآسيوية أو الأفريقية أو الشرق أوسطية أو السمراء أو السوداء أو البيضاء أو خليط حسب أصول الأمهات والآباء طوال عمره.. يتبع دين ملته وما يتبعون فيكون من أتباع إما البوذية أو الهندوسية أو الكونفوشيوسية أو الشنتو أو الجانية أو السيخية أوالزرادشتية أو الطاوية (و معناها الطريقة.. ولها مسميات مثل "دي" و"تشي" و"كي" حسب اللغة).. أو يكون إبراهيمياً من الصابئة أو من أهل الكتاب، مسلماً أو مسيحيا أو يهودياً.. أو يتبع أي دين من تلك التي يعبدون فيها الطاقات كالنار والشمس والأجرام السماوية والأعاصير أو بعض الحيوانات.. أو ممن يقدسون بعض البشر أو رمز الذكورة أو حتى الأصنام والحجر.. أو يؤمنون بالتناسخ وعودة الروح في أجساد الحيوانات والحشرات!!

اللهم لا إعتراض على لون البشرة والصبغة والملامح.. فالمولود بين أهله وعشيرته كلهم سواء.. أما الجنسية والتبعية.. الحمدلله على كل حال.. على الأقل يكونون محسوبين على ملة من البشر.. قد يكبرون ويكتشفون كم العيوب والمساوئ والمظالم في موطنهم.. لكن الوقت يكون قد فات.. جل ما باليد هو ما يفعله الكثيرون من محاولات الهجرة والهروب من الدول المعدومة.. وتلك الدول التي يكثر فيها المجازر والحروب والقتل على الهوية.. وفي أحيان كثيرة تصبح الملامح التي رضينا بها وبالاً علينا حيثما نلجأ.. فالآسيوي والأفريقي والعربي الأسمر لا يستطيع الإنخراط في دول الغرب مثلاً ولا الذوبان في تلك المجتمعات مهما غير إسمه أو لسانه أو حتى دينه بقصد الإندماج والإنخراط هرباً من تبعات التمييز وسوء المعاملة.. ولكم فيما حلّ باليابانيين في أمريكا بعد قصف القواعد البحرية في "هونولولو" في (1941) مثلاً للتمييز حسب الملامح فقط.. ثم ما حصل لبعض الهنود السيخ الملتحين في أمريكان غداة الهجوم على برجي التجارة العالمية.. وتلك المعاملة المتشككة في كل من يحمل الملامح الشرق أوسطية أو الباكستانية والأفغانية في أغلب مطارات الولايات المتحدة إلى يومنا هذا !!

 

ثم ما هو ذنب المولود الذي تطأ قدماه الأرض مسلماً في قرى "الروهينغا" في مقاطعة "أراكان" في بورما (ماينمار) ليتم قتله ونحره وحرقه.. فقط لأنه يعتبر دخيلاً على أصحاب الأرض الأصليين من اتباع البوذية؟  وفي الهند مثلاً أن يُولد مسلماً بين الهندوس أو بالعكس أو لمجرد أن يكون من طبقة المنبوذين (و هذه حكاية أخرى).. وقياساً على ذلك ما ذنب أطفال العراق وسوريا واليمن وحتى إيران؟؟  فبرغم أنهم في أوطانهم وبين الغالبية من ذات الدين.. لكنهم يتعرضون لشتى المآسي والتفرقة بسبب الإختلافات المذهبية والطائفية والأصول العرقية.

أحياناً يتم إضطهادهم فقط بسبب الأسماء التى فرضت عليهم.. فهذا إسمه "عمر" و"عثمان" و"عبدالرحمن" وذاك إسمه "جعفر" و"عباس" وعبد الزهراء".. هذا سني وهذا شيعي وهذا زيدي وهذا حوثي وهذا سلفي وهذا أباضي.. هذا كردي وهذا تركي وهذا آشوري.. هذا مسيحي ارثوذوكسي وهذا كاثوليكي وهذا معمداني وهذا قبطي وهذا كلداني وهذا سرياني.. هذا يهودي وهذا بهائي وهذا مجوسي.. هذا من أصول أرمنية أو ساسانية أو أذرية.. بل وهذا فارسي وهذا أفغاني وهذا من بلوشستان وهذا من العرب.. هذا قبلي بدوي وهذا حضري وهذا أبيض وهذا أسود.. وهذا "أصل أصول جد أجداد جده" من هنا أو هناك !!

فبأي حق نفرض على المولود هذه التبعية لمدى العمر؟  ونفرض عليه فرائض دين ومذهب وملة لم يكن له في اي منها قرار؟  بل ونتوقع منه أن يقضي عمره يقاتل ويحامي ويدافع عن إعتقاد لم يكن له فيه خيار.. وتخبو عنده كل العواطف الإنسانية السوية.. تنمو عنده نزعات همجية رعناء من أجل أمور في كثيرها موضع شك وريبة.. وفي الأخير ربما بينها إختلافات ليست جوهرية.. بل تفسيرية يستغلها البعض من أجل مكاسب دنيوية.. ونحن من ندفع أثمانها بغباء !!

فما أروعها من آية قرآنية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).. وقد روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ).. فبأي ذنب يتم اليوم قتل أطفال سوريا والعراق وأفغانستان واليمن وليبيا والسودان والصومال ونيجيريا عطشاً وجوعاً وقصفاً وتفجيراً.. أو تعذيباً في أقبية المعتقلات.. أو ذبحا داعشياً لا يفرق بين البشر و"لا يبقي ولا يذر".. وتُرفع روؤسهم على أسنة الرماح.. أين نحن معشر المسلمين مما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً فانياً ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً).. اللهم رحمتك !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم