أقلام حرة

المعنى الإنكاري للرغبة: قراءة في رواية: نوتنغهام لقصي الشيخ عسكر

صالح الرزوقلا توجد علاقة واضحة بين رواية (نوتنغهام) لقصي الشيخ عسكر وأعماله المبكرة، مع أن الهم هو هو.

فاللغة تنتمي لقاموس الحياة اليومية، والموضوع يغطي سلسلة من الأزمات التي لا تخرج على نطاق حرب الخليج الأولى والثانية. وأعتقد أن (نوتنغهام) تنتمي لفترة لاحقة، ولا سيما لطور روايته (رسالة). فالموضوع المركزي في العملين يتلخص بالحركة على محيط دوائر متداخلة. لقد كان نادر بطل (نوتنغهام) مثل قرينه بطل (رسالة) متورطا في متاهتين.

الأولى نفسية، تقوده من عالم اللاشعور إلى عالم المعرفة المأزومة. ويمكن أن تفهم ذلك بضوء حياته الموزعة بين قبو برفقة الغانية جوستينا، وبين نشاطه السياسي والعلمي في الجامعة والهايدبارك.

أما الثانية فهي متاهة بين أمكنة مألوفة وأخرى غريبة. وبالتحديد بين مسقط رأسه (المشدود له بقوة الصدفة والقدر الأعمى)، وبين نوتنغهام التي اختارها بملء إرادته. وبلغة أوضح: بين الشرط الوجودي وضرورة الحرية.

وإذا كان نادر متوازنا في شأنه النفسي، ويعرف كيف ينفق الليبيدو ويحوله إلى كمون مهذب ومعرفي، كان على الخلاف من ذلك بالنسبة للمكان. فقد خص بغداد بالإنكار السالب. ويقول عنها:"إنها أمر واقع لا يجب أن يتمرد عليه". ولكنه يخص نوتنغهام بالإنكار الموجب. وبهذا المعنى يقول: "إنها تبدو بوجه آخر، غير أنها لا تخيب رجاء أصدقائها القدامى".

في كل الحالات كان نادر عدميا وينظر للحياة بمنظار كئيب ومحبط. ويذكرنا هذا السلوك بما فعله كل أدباء الحرب البارزين في الثمانينات والسبعينات. فقد رسموا للشخصية العربية أبعادا غامضة وتصوفية على الأغلب، ومنكفئة على الذات. أضف لذلك أنها كانت تقرض نفسها بطريقة تدعو للرثاء والشفقة. لقد كان أبطال الرواية العربية أضعف من أن يحملوا مسؤولية ذاكرتهم. فهم يحترمون ماضيهم ولكن يعجزون عن تكراره. ويعانون من مشكلة المثقف الأزلية: وأقصد بذلك الصراع الدرامي بين الأخلاق والعواطف، أو بين الفضيلة والواجب. وهي مشكلة يعاني منها كل الأبطال المثقفين ابتداء من ميرسو في غريب كامو، وحتى نادين في (المثقفون) لدوبوفوار. لكن من الضروري التنويه أن قوام رواية (نوتنغهام) يبني على تقاطعات بين دال معرفي ومدلول اجتماعي. وبالتالي مثلما أنها تتكلم عن انعكاس الحرب على الإنسان، هي كذلك تشير لانعكاس قاع المجتمع على العقل. إنها تعرض مشاكل محتوى الصورة وليس الصورة ذاتها. وتتناول مسألة تدهور المعنى على حساب المظاهر. ولكنها لا تزال رواية كامبوس (عن المدينة الجامعية) مثل (شرخ في تاريخ طويل) لهاني الراهب، و(قالت ضحى) لبهاء طاهر. وغني عن القول أن هذا يفترض وجود حوارات مطولة عن السياسة (من قبيل كلام نادر وعبدالعال)، مع علاقات عابرة بين المذكر والمؤنث. وهي دائما علاقات تتطور في السرير، وتكون مبنية على ردود الأفعال والفهم الخاطئ لماهية الوجود. ويمكننا القول إن نادر مختلف مع نفسه. فقد اختار أن يحاكي الواقع ولكن بتجرد. بتعبير آخر: دون الانهماك في تيار الأحداث، ومع الاحتفاظ بمسافة بين الأسباب والنتائج. فالحرب المدمرة التي دفعته نحو مصيره المحتوم حازت على إشارات سريعة. في حين انفردت التفاصيل بمتابعة أخبار المجتمع وخطاياه وهفواته، وبنفس الأسلوب المبرمج والروتيني الذي صورته أعمال نكسة حزيران. ولنأخذ كمثال رواية (المتألق) لعبد النبي حجازي، و(حادث النصف متر) لصبري موسى. فالبطل يهرب من عار الهزيمة بالتهالك على الشعارات والمكاسب. ومثل هذا التعويض يعمل على ترميم الفساد وتجميل وجهه، لكنه، في نفس الوقت، يضع في المرآة صورة الأشياء التي فقدتها الذاكرة. وهذه مشكلة بارزة في رواية (نوتنغهام). فالذاكرة فيها تنظر للمبررات على أنها هي نفسها القيم. على سبيل المثال، كان نادر يعمل في أحد المطاعم لتوفير النفقات، وكانت جوستينا تبيع البضاعة الوحيدة المتوفرة لديها. ويمكن أن تنظر لهذه العمالة على أنها عمالة عضلية. إنها خدمة بواسطة هبة حصلنا عليها من الطبيعة. بمعنى أن أداة الإنتاج لا فضل لنا بها، وهي منة فقط، وتعكس كل شرور وأخطاء الطمع الرأسمالي بأسوأ صوره. وأعتقد أن هذا هو المدخل الوحيد والصحيح لتفسير الرموز على اختلاف أنواعها. وهي رموز هجينة، تتحدى فكرة الفضيلة، وتستبدلها بالتفسير الكوزموبوليتاني لمعنى الحرية.

وربما من المفيد هنا التذكير بمجمل فكرة الرواية. فهي عن شاب عراقي يقيم علاقة خاطئة مع غانية، ثم يتبرع لها بحيواناته المنوية قبل نهاية دراسته، ويعود بعد أربع سنوات ليتحرى إذا كانت قد قبلتها وأنجبت منه.

لا يهم إن لقحت جوستينا نفسها بعصارة نادر. ولا يهم أنها بالفعل أنجبت ابنة ومنحتها اسما عربيا خالصا. فهذه المفاجأة البيولوجية ليست بحجم المدلول الحضاري. فالإنجاب، الذي تم بواسطة آلية تشبه الروموت كونترول، وبتلقيح خارجي بين رجل غائب في الشرق، وضحية نسائية من ضحايا السوق في الغرب، لا يختلف كثيرا عن سياسات الاستعمار القديم. فهو حضارة بالإكراه وليس بالاتفاق. ولهذا السبب تحولت العلاقات الإنسانية في الرواية إلى تبادل منافع بين طرفين. الأول خارج مكانه، والثاني خارج مجتمعه.

لكن لم يحاول قصي الشيخ عسكر أن يفلسف خط الأحداث، ولا أن يلفت انتباهنا للفرق بين الالتزام والتورط . ورسم شخصياته بواسطة تكنيك الراوي الرديف، كما فعل من قبل في (رسالة).

وهنا لا بد من بعض الاستطراد.

إن هذا النوع من الرواة يختلف عن السارد العليم، وهو لا يلمّ بكل مجريات الأحداث، وإنما بكل انعكاساتها. لأنه بكل بساطة يعرف الصور المتخيلة التي ابتكرها الكاتب وليس الواقع. وإذا استعملنا مفردات باختين: هو جزء من العلاقات الحواراتية، وليس الكلام أو المحادثة. ص 54. و بكل تأكيد العلاقات لها مدلول أما الكلام فيمكن أن يكون لغوا. ص 54*. وعليه وضعتنا الرواية أمام نصين. نص مكتوب في الذاكرة، ونص يمحو تلك الكتابة. وكان لكل واحد منهما أثره على المعنى. بالإنكار والإلغاء أو بنفي النفي. وفي النهاية أصبحنا أمام رواية تتكلم عن آثار ونتائج. ولنأخذ نادر كمثال. لقد شارك في الحرب الساخنة على الجبهة، لكنه ترك رجولته (بمعنى حيواناته المنوية) في نوتنغهام. ويقول عن ذلك: إنه "لضمان استمراره". ويضيف فورا: هذا "يكفل له العودة بصيغة أخرى للحياة". ثم يردف: إنه "يغامر على الحياة والموت معا". فهو في رهان مزدوج أحدهما ينفي الآخر. وتنسحب نفس المفارقة على الغانية جوستينا. فقد كانت موزعة بين مكانين، جسدها الميت الذي تنهبه قوة السوق، وعاطفتها التي لا تقبل بنظام المنفعة. وترتب على هذا التوزيع الإنكاري تجزيء إنكاري للأسلوب أيضا. فقد كانت الذكريات تقطع الطريق على تسلسل الأحداث، وتربط الماضي بالمستقبل، ولا تهتم بالحاضر. فالوقت الراهن مؤجل، ويخيم عليه التكهن والانتظار. حتى أن خاتمة الرواية المفتوحة لم تخدم إلا شيئا واحدا وهو انتظار تحقيق ما يأمل به شخصياتها. ويمكن أن تقول إن فلسفة الرواية مبنية على إنكار الحاضر أو رفضه، مع التمسك بالماضي (بالنسبة لنادر) وبعصر البراءة (بالنسبة لجوستينا). والدليل على ذلك الافتتاحية. فقد استهلها الراوي بوصف مفصلي للتحويرات التي لحقت بالمكان، ولما فقدته الذاكرة من معناها أو من موضعها في سياق الأحداث. فقد كان مسرح الأحداث يمر بحالة انزياح دلالي، أو تقليص للمساحة وتوسيع للفجوة. أو كما قال نادر بضمير الغائب: "إن كل شيء يجري الآن بشكل آخر". ثم يضيف: "إنه يمر بترتيب مختلف دون تحوير". ولا يمكن أن تفهم من عبارته غير معنى واحد: أن الظاهر ينقرض والمحتويات على ما هي عليه. وأن العلاقة ليست جدلية بين المكان ونقاط العلاّم (الإشارة الدالة). فالأمكنة على الخريطة "ليست في مواقعها المحددة حسب المفروض". ويعبر عن هذه الإشكالية حينما يزور الهايدبارك في لندن ويقول عن المدينة وهو يجيل النظر في أرجائها: "يا لها من عجوز شابة!!"

 وعلينا أيضا الانتباه لتكنيك تبادل الأماكن. فهو في الرواية ليس دون مغزى، ويتم بالتناوب والتعاكس، من مستوى أدنى لأعلى في حالة نادر. فهو لا يكف عن الاختيار بين جملة احتمالات.. المعرفة والمنفى والأرض أو الهوية. وفي كل الأحوال كان له موقف رجولي وإنساني من الحضارة والمعرفة. والحقيقة يوجد نوع من التماهي بين الطرفين. ولكن الصدع الوحيد يأتي من حالة الاغتراب القسري الذي يجب أن يتلازم مع أخلاقه ورجولته من جهة ومع غربته وضياعه في منفاه من جهة. ولكن هذا التبدل النفسي والوجداني يقابله تبدل في مفهومنا عن المجتمع في حالة جوستينا. فهي لا تنفصل عن مكانها المألوف، بتعبير أوضح لا تغادر أرضها إنها تلعب في مساحة مكشوفة ودون ورقة التوت وعلنا. فليس في حياة جوستينا رهان للتستر. وربما العكس هو الصحيح. فرهانها فضائحي مثل إعلان عن مشكلة وجودية وشاملة. وهي مرتاحة تماما من الحساسيات الوطنية، ويمكن أن تقول إن مدارها نوعي وذاتي لكن بصفات موضوعه.

 وللتوضيح هي دائمة التنقل بين جدران العزل بين النماذج ولكن ليس الطبقات. إنها لا تغادر طبقتها الكادحة إنما أسلوب الكدح هو الذي يتغير، من عاملة في محطة وقود إلى بغي. ومن متعددة العلاقات الجنسية إلى حكر على صديق واحد. وحتى هذا الصديق له كل مشاكل عطيل. شرقي وغير أبيض. إنه اللون المختلف في القطيع. أسود مثل لاشعور وعصاب المجتمع، وبالتالي هو فضيحة إضافية تكشف مزيدا من أوراق جوستينا وتضعها نهبا للعيون والتساؤلات، وتؤكد على خطها المنحدر من مدار أعلى لمدار أدنى، بمعنى أنها بعكس صعود نادر.

 فهل كان يريد قصي العسكر هجاء الغرب وتمجيد الشرق؟.

 لا أعتقد ذلك.

 إنه أعمق من هذا الموقف غير الواقعي. ولكنه حاول أن يبحث عن نقطة توازن للطرفين، ووجده في ابنتهما. ومع ذلك ترك الموضوع معلقا وبقي حتى النهاية يسأل نفسه عن شكل ابنته ونواياها. وهكذا نقل مشكلته ذات الصدع الحضاري إلى مشكلة معرفية لها جانب روحي. والمشكلة الأزلية التي تعيد رواية (نوتنغهام) تصويرها هي شبهة سقوط الغرب مقابل الفضيلة والأخلاق الرفيعة التي يتحلى بها أبناء المشرق. وما يفاقم المشكلة أن المتعفف دائما من ذكور المشرق، والفاسد هو بنت ساقطة من بنات الحضارة الغربية.

 على أي أساس يبني قصي العسكر هذه الإيديولوجيا المتكررة؟.

 الجواب على السؤال تجده في الشك الذي سيحيط به ثمرة غرامه العذري. فمع أن ابنته ثمرة للخطيئة لكنها خطيئة عفيفة. فالتلقيح كان خارجيا، والحمل ليس نتيجة نكاح وإنما هو نتيجة لتطور العلوم والحضارة. فهل ستحقق له ابنته آماله وتكون مثالا للترفع والنظافة، أم أنها ستحمل مورثات أخلاق أمها وتكون براغماتية ونفعية. مجرد طرح هذا السؤال يعني أن قصي العسكر لا يزال في الحاضنة التي قدمت لنا سهيل إدريس، وقبله شكيب الجابري، وفاضل السباعي، وكلهم نماذج معروفة عن إعادة إنتاج الغرب والشرق. للغرب الفساد والانحلال وللشرق العفة والفضيلة. ولكن ما لم يفسره أحد، لماذا لا تعاقب السماء بلاد الفجور وتطارد بلعنتها المجتمع الأصيل.

 برأيي إنها نكاية ضعيفة وأسلوب تحويل فرويدي معكوس نسقط عليه ضعفنا وجروحنا. ويكفي أن شكل رواية (نوتنغهام) غربي مائة بالمائة ولا تتخلله عناصر من السرد ولا النثر العربي ببلاغته وبنيته. إن الدفاع عن نادر هو تغطية وتستر على إحساس البنية بقيمتها الاستعارية. فالشكل حصيلة لمفهوم الغرب عن سرد العقل، والمحتوى هو حصيلة النظرة البدائية والمتخلفة عن مركزية الشرف وعلاقته بأعضاء العيب عند النساء. وحتى أن هذا التفسير يحمل عدة أخطاء عضوية. فالفضيلة ليست موضوع نوتنغهام ولا الوطنية أو الهوية. وهي تصور سلوك نادر وردود أفعاله تجاه مسائل عاجلة وآنية. ويوجد فرق واسع بين السلوك والشرف، فالأول حادث والثاني معنى أو فلسفة.

وختاما يحسن بنا تسجيل الملاحظات التالية.

إن نوتنغهام عمل من أعمال الذاكرة. فهي تبدأ من لحظة قريبة من النهاية، وتعود بنا بالذهن لما قبل أربع سنوات، بمعنى أن الأحداث الأساسية تمت وانتهى وقتها، وحان الوقت لمتابعة الترسبات ومفعول الزمن.

وهي رواية مكان وليس شخصيات. لذلك غلبت عليها المشاهدة ومقارنة الواقع الحالي بما كان عليه بالماضي. ويستعمل نادر أسلوب الكاميرا. فهو يرسم بانوراما بطيئة للمدينة، بشوارعها وبيوتها دون أي اهتمام بالوجوه أو البشر. إنها بخلاف الأعمال التي ارتبطت بأذهاننا باسم مكان مثل (قصص كوليما) لشالاموف. مع أن الحكاية فيها عن الظروف الشاقة لمعسكر الاعتقال المشهور، فهي تدخل إلى حياة الشخصيات ضمن شرط ظرف المكان. لكنها أبدا لا تنشئ علاقة مع الطبيعة، وتنظر لكل شيء من خلال عيون بشرية. بعكس ما فعله الشيخ عسكر. فقد كان موضوعه هو المدينة، وتأثير دورة الحياة والطبيعة عليها.

وهي بالنتيجة رواية سياحية، وليست مهجرية. فزيارة نادر لا تتعدى بفترتها الشهر، ولا يمكن أن تجد أي صدى لإقامة دائمة أو أية نية للارتباط بهوية وروح المدينة. وعليه إنه يفتقد لحس المواطنة، وتتعدى عليه مشاعر الاغتراب والإنكار، ولدرجة الإلحاد أو الانفصال عن جوهر الواقع البشري، سواء من الداخل والخارج. وبتعبير آخر، كان نادر بعيدا عن نفسه بمقدار ما هو بعيد عن بيئته. وقد اختار التكهن والشك، وابتعد عن القطعيات واليقين.

وأخيرا، لا شك أن (نوتنغهام) عمل يدخل في اختصاص صراع الحضارات. لكن ليس بالمعنى التقليدي. كان العدو في أعمال الرواد انتقائيا، وهو بالتحديد: 1- الأخلاق الشائنة لمعنى الأنثى في الغرب، و 2- إسرائيل. فهو عدو اجتماع سياسي، ويدخل في دوائر الصراع على الوجود. لكن في (نوتنغهام) يعمل نادر على بزل الطرفين. إنه يستأصل هذا الورم المفترض من عقليته، ويضغط باتجاه الشرق. ويجعل التناقض بين العرب من جهة وإيران من جهة مقابلة. لقد انتقلت الجبهة في هذه الرواية من الغرب إلى الشرق. وبذلك فتحت الباب على مراجعة شاملة لفكر التنوير، وقفزت مباشرة لفكر النهضة. وإن أطروحة الرواية لا تنسف كل نظرية جورج طرابيشي و قبله محمد كامل الخطيب عن المواجهة المفتوحة بين الحضارات فقط، وإنما تواكب الجهود المبذولة لإعادة تعريف معنى فلسفة الأنوار عند العرب وكما وردت عند أبناء الرعيل الثالث أمثال ماجد الغرباوي ومحمد طالب وهاشم صالح وآخرين. وباعتقادي أثرت هذه الرؤية على سياسة الخيال الفني مثلما أثرت على سياسة الشخصيات وعلبة تفكيرها. فهي بلا ماكياجات الحداثة، ودون المحسنات التي ورثناها من كتّاب ما بين الحربين (1915-1948). بمعنى أنها نظيفة من اللامبالاة والعبثية وفوضى الأحاسيس بالطريقة الماجنة التي اتبعها الرواد. وتبدو لي أنها أقرب لأدبيات إيرلندا. فهي بموضعها من مشكلة المواطنة والدين لا تختلف عن محور النزاع الطائفي بين المتشابهات. أو إذا اخترنا مصطلحات فرويد: أنا غيري. وإذا وضعنا برقع الحياء والخجل جانبا، يمكن القول إنها تلغي كل ما بنيناه على فكرة وفلسفة المقاومة، وتستبدلها بإيديولوجيا التناحر أو سياسة الرفض. وتضع النهاية في مكان أعلى من البدايات. فقد كانت الشخصيات تراهن على النتيجة دون أن تعلق أية أهمية على الأدوات والأساليب**.

 

د. صالح الرزوق

.......................

* من كتاب النظرية الجمالية لباختين. ترجمة عقبة زيدان. منشورات دار نينوى. دمشق. 2017.

** أود التنويه بالفرق الاستراتيجي بين المقاومة والرفض. فحركات التحرير يكون لها هدف من وراء العمل العسكري أو الوقوف على أهبة الاستعداد. لكن الرفض هو موقف تراجيدي تنفي به الذات موضوعها. وبطل الرواية في الواقع مثل المنشار. يقطع علاقته مع موضوعه من الطرفين. فلا هو مع بروباغاندا الحضارات، ولم يقدم أية إشارة إيجابية تدل على الانتماء لعكسه.

 

د. صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم