أقلام حرة

قراءة نفسية لنكبة إبن رشد!!

صادق السامرائي"إبن رشد (1126-1198)، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، ولد في قرطبة في بيت إشتهر بالعلم والفقه، وقد درس الشريعة على الطريقة الأشعرية، والفقه على المذهب المالكي، ثم درس الطب والرياضيات والحكمة.

وفي عام 1153 دعاه عبدالرحمان المؤمن أول ملوك الموحدين إلى مراكش ليعاونه على إنشاء معاهد العلم.

إتصل إبن رشد بأبناء زهر وهم من مشاهير الأطباء، ووضع كتابا في الطب سماه " الكليات".

وفي مراكش إتصل عن طريق إبن طفيل  بالخليفة إبي يعقوب يوسف عبد المؤمن، وقد أظهر رغبة أمام إبن طفيل، في أن تفسَّر كتب أرسطو وتُلخَص لدفع الشك الذي كان يحوم حولها، ولما كان إبن طفيل متقدما في السن  طلب من إبن رشد أن يقوم بالمهمة.

وفي عام 1169 عينه الخليفة قاضيا لأشبيلية، فلخص في هذه السنة كتاب " الحيوان" لأرسطو، وفي عام 1171 عينه أبو يعقوب قاضيا لقرطبة، وبقي في المنصب أكثر من عشر سنوات، شرح فيها كتاب "ما بعد الطبيعة" وكُتب أخرى، وفي عام 1182 إستدعاه الخليفة إلى مراكش وجعله طبيبه الخاص، ثم أعاده إلى قرطبة بوظيفة قاضي القضاة.

وبعد وفاة أبي يعقوب خلفه إبنه أبو يوسف الملقب بالمنصور 1184، فلقي ذات الحظوة والإكرام في بادئ الأمر، وأصبح " سلطان العقول والأفكار، ولا رأي إلا رأيه، ولا قول إلا قوله"، مما أثار حسد الفقهاء والمتزمتين وحقدهم فرموه بالكفر والزندقة، فتمكنوا من قلب الخليفة عليه، وقرروا أن تعاليمه كفر محض، ولعنوا مَن يقرأها، وقضوا عليه بالنفي، فنفي إلى قرية "اليسانة" خمسين كليومترا جنوب قرطبة، وأمر الخليفة بحرق كتبه وكتب الفلسفة، وحظر الإشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدا الطب وعلم النجوم والحساب.

ولما كان الخليفة المنصور في حرب طاحنة مع ملك قشتالة فأنه كان بحاجة لرضى الشعب ومؤازرته، فإتخذ الموقف العدائي من إبن رشد بموجب توجيهات الفقهاء الذين يكفرون الفلاسفة، وكانت نقمة الخليفة عليه إرضاءً لخصومه، فإقتصرت على النفي وليس الإعدام أو القتل المروع كما حصل لغيره، وعندما عاد الخليفة إلى مراكش وتحرر من ضغط علماء الدين في الأندلس، عفا عن إبن رشد، وإستقدمه وأعاده إلى سالف نعمته،  لكن هذه النكبة قد أثرت تأثيرا عميقا في إبن رشد، فلم يعمّر طويلا بعد العفو عنه وتوفي بعد بضعة أشهر عام 1198"

هذا ملخص عنه من كتابه - فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة من الإتصال -  (قدم له وعلق عليه الدكتور البير نصري نادر، الطبعة الثانية، دار المشرق \بيروت\لبنان\1986)

فنحن أمام فقيه عارف وعالم موسوعي حاذق ومتميز، تآمر عليه الفقهاء الذين لا يدانونه بمعرفة وعلم فكفّروه وألبوا السلطان عليه، ولولا تأريخه وعراقة عائلته ودورها في الحياة لأمر بقتله، لكنه إكتفى بالنفي وحرق الكتب ومنع فلسفته من الإنتشار.

ويبدو أن السلطان قد شعر بخطل قراره وأنه كان سياسيا ومرحليا فعاد عنه،  بعد أن أزرى بإبن رشد وأوجعه نفسيا وفكريا وأصابه بيأس وإحباط وإنكسار، لأنه قد أشعره بفقدان الأمل بالأمة التي عليها أن تنير.

وربما يكون للكآبة وشدة ما لاقاه من الحيف والصغط النفسي والفكري، والإقصاء المعنوي الأليم والإعدام القاسي لكتبه، والمنع المطبق على أفكاره، وتكفيره ونبذه ورميه بالزندقة، وهو من العارفين بالفقه والدين، أثر موجع ودور في تسريع وفاته بعد إصدار العفو عنه.

وفي هذا الموقف تظهر آليات الشد النفسي الورائي الذي يشبه جاذبية الأرض التي تُسقط الأشياء فوقها، ولا يمكنها أن تخرج من قبضتها إلا بقوة دافعة متفوقة عليها، والعجيب في السلوك البشري أن قِوى الشد الورائي تتراكم بسرعة فلا يجد المنطلق بعكسها إلا نفسه لوحده في الإتجاه الذي سلكه.

وهذه طبيعة نفسية سلوكية قاهرة فاعلة في مسيرات الأجيال البشرية وفي كافة المجتمعات والشعوب والأمم، فالذي يأتي بجديد تنهض بوجهه هذه القوى وفي أكثر الأحيان تصده، ولا يُعرف تفسيرا واضحا لهذه الظاهرة السلوكية الكامنة في البشر.

كما أن التقرب من مركز القوة فيه مخاطر وهو أشبه بالمجازفة المريرة العواقب، وقد حذرت العرب من الإقتراب من السلاطين والملوك، لأنهم لا يرحمون عندما يتعلق الأمر بسلطانهم، ولا يمكنهم أن يتحملوا أي تهديد حتى ولو كان متخيلا أو متوهما، ومعظم العقول العربية التي أزريَ بها كانت قريبة من السلاطين، كما هو الحال مع إبن رشد، لأن حاشية السلطان عبارة عن وحوش سابغة تتنافس على نيل الحظوة والجاه والمقام عنده، وهذه منافسة حامية دامية تتسبب بقتل وترويع وإمحاق، لأن البشر قد كشر عن أمّارات السوء التي فيه، وتحول إلى وحش كاسر بمظهر آدمي.

والعامل الفاعل في مسيرة الحكم العربي أن لكل حاكم عمائم تسوّغ له ما يقوم به وتحشد العامة لتكون معه وتدين بالولاء له، فهو يعتمد على أصحاب العمائم في توطيد حكمه، ولهذا تجدهم يحومون حول الكراسي في جميع الأزمان، ويتبع الحاكم أو السلطان رؤاهم وفتواهم ولا يحيد عنها خوفا منهم لأنهم قد يؤلبون العامة عليه.

وبما أن أنظمة الحكم فردية وتمتطي الدين كوسيلة للقبض على مصير الناس وحكمهم، فأن ذوي العمائم هم الحكام الفعليون في تأريخ العرب.

والعامة في نظرهم عبارة عن قطيع يجب تجهيله وتدجينه ليكون لعبة في أيديهم، ودمية يحركونها كيفما يشاؤون، وعندما يأتي فقيه عليم كإبن رشد ويريد أن يحث الناس على إعمال عقولهم، والخروج من الإستعباد بالجهل والتبعية والخنوع، فأن في ذلك تهديد خطير لمصالح العمائم، فيجتهدون في تحريفه وتحويره وتطويره ليكون تهديدا للحاكم أو السلطان، وبهذا تسعى العمائم لطرح رأيها الذي تراه متوافقا مع إرادة السلطان، فتقضي بما تقضي وتسعى لإقناع الحاكم بأن هناك خطر كبير يهدد حكمه عليه أن يتخلص منه قبل أن يستفحل ويبيد مجده الأثيل.

ومن الواضح أن العلوم والمعارف كانت نخبوية أو للخاصة والمقربين من مركز القوة والحكم، ولم تكن يوما للعامة، الذين عليهم أن يُجَهلوا ويُعَطِلوا عقولهم ويتبعوا عمامة مضللة وداعية للإذعان لإرادة السلطان، فالعامة محرّم عليها المعرفة والعلم، ولا يحق لها أن تسأل أو تفكر بل أن تنفذ وتلقي بالمسؤولية على العمامة الفاعلة فيها والسلطان الذي بيده تقرير مصيرها، والسلطان يعبّر عن إرادة الله في خلقه، وهو المنفذ لشرعه والحامي لدينه الذي على الناس أن تؤدي طقوسه بإحكام.

وليس من السهل تفسير هذا الإحتكار المعرفي والعلمي في المسيرة العربية، وعدم الإنطلاق بتأسيس المراكز التعليمية في المدن والحواضر آنذاك، فالعلماء العرب ربما تجمعهم صفة الأنانية الشديدة ويمعنون بالخصوصية والإحتكارية العلمية والمعرفية، ولم يجتهدوا ويوظفوا قدراتهم في إنشاء جيل من العلماء والعارفين والقادرين على التواصل والنماء، وإنما حصروا نشاطاتهم حول الكراسي المتنفذة في زمانهم، وقد يكون نشر العلم من المحرمات على العامة وفقا لفقه العمامة.

أي أنهم ربطوا مصيرهم ومصير علومهم بالكراسي، ولولا جهود النساخين وحيلهم في إخفاء بعض الكتب التي ألفها العلماء العرب، لما تمكنا من العثور على أثر لهم، فحالما يغضب عليهم الكرسي بتحريض من العمائم فأنهم سيكفّرون، وما أنتجوه يكون في جوف النار والإندثار.

وهذه خطيئة إبن رشد كغيره من الذين سبقوه والذين جاؤوا من بعده، ولهذا لاتوجد قاعدة معرفية وعلمية منتشرة في الأجيال العربية، ولهذا السبب الأساسي دخل العرب في عصور مظلمة أشد ظلاما من عصور أوربا في القرون الوسطى، فعم الجهل والتجهيل والمتاجرة بالدين من قبل الأدعياء والجهلاء والدجالين الذين أزرَوا بهيبة الأمة ومقامها ودورها الحضاري.

فلو كان العلماء العرب ذوي نظرة مستقبلية وقدرة على ترسيخ العلوم والمعارف في أذهان الأجيال لما أصاب العرب ما أصابهم، ولحملوا رايات العلم وطوروها منذ زمان بعيد جدا، بدلا من واقع الحال المتخلف الرديئ الذي يعانون منه.

ومن الواضح أن هناك خطوط حمراء تعتاش عليها العمائم كافة ولا يمكن تجاوزها،  حتى ولو أن المتجاوز لها عارف بالفقه والدين كإبن رشد، لأن في ذلك تهديد خطير للمصالح المعممة، والمستثمرة بالتجهيل وتعطيل العقل، والإرتهان بالنص الديني كما بدى ولا يجوز القول بغير ما تعارف عليه الناس وفقا لآليات قال فلان وذكر فلان، وإن إستحضرتَ العقل فأنت كافر وزنديق، وتريد تمزيق الأمة والعدوان على الدين.

ويمكن القول أن نكبة إبن رشد هي نكبة أمة بكاملها، كما أن نكبة غيره من العلماء العرب هي نكبات أمة أصابتها بمقتل لأنها عطلت عقول أجيالها، وأفهمتها أن التفكير من المحرمات والسؤال من الممنوعات، وأن التبعية دين والإذعان من الإيمان، والخنوع للسلطان هو عين الحكمة والعقل.

هذه النكبات المتعاقبة للعقول العربية المنيرة، أصابت الأمة بالرقود المزمن وبالأمراض السلوكية الخطيرة، التي توارثتها على أنها حالات مستوطنة ومستعصية عليها أن ترتهن بها ولا تفكر بالشفاء منها لأن التفكير ممنوع، ولاتزال الأمة تعاني من تداعيات نكباتها الفكرية والعقلية، وتتخبط في ما نجم عنها من إنحرافات وتصورات وتفاعلات دامية ومرعبة، لا تجد للعقل فيها دورا وتأثيرا، ولا تزال العمامة هي الفاعل المطلق المقرر للمصير العربي في أي مكان.

وهي تمثل إشكالية معقدة فاعلة في الوعي العربي على مر الأجيال، ومهيمنة على الرؤى والتصورات ومحددة لقدرات التفكير والإبداع، ولا تزال تنخر في وعي الأمة وتمزقها، وما تمكنت الأمة من الوقوف إزاءها بعقل منفتح وتفكير علمي معاصر، يتصدى لها كمشكلة تستدعي حلولا عملية ذات قيمة حضارية، بل أن المفكرين العرب يكررون التحليل والتعمق في موضوعاتها ويأبون قراءتها كمشكلة وإنما كأشكالية ويعفون أنفسهم من التفكير بالحل.

ولابد من القول بقوة أنها مشكلة عقلية نفسية سلوكية مهيمنة على وعي الأمة وفاصلة لها عن تيار الزمان وواقع المكان، ومغطسة لوجودها في وحل البهتان.

فحيثيات النكبة الرشدية تتلخص في إستعمال العقل لصناعة الحياة ومواجهة التحديات، والتفاعل مع التطورات الحاصلة والمواكبة مع تيار الوجود الجاري بعنفوان وفقا لإرادة الدوران، التي تفرض تغيرات وتبدلات تستدعي عقلا متواصلا معها، لكي تتقدم الحياة وتتنور الأذهان وتسترشد البصائر بوضوح الرؤية بدلا من التيهان.

وإذا إقتربنا للموضوع من جميع الزوايا فأن العقل لابد له أن يعمل لكي تستمر الحياة، وفقا لمناهج كونية تؤكد التطور والرقاء والإنطلاق الخلاق في آفاق الفضاء المتسع، وإن نظرنا إليها من زاوية دينية، فلا حاجة لإستحضار الآيات المتعددة التي تشير لضرورة إستعمال العقل، ويمكن الإكتفاء بكلمة " إقرأ" التي هي فعل أمر وتعني في جوهرها أن يعمل العقل بطاقته القصوى، لأن القراءة نشاط عقلي بحاجة إلى يقظة وتفكير وحضور إدراك.

وقد قرأت كتب إبن رشد وتمعنت فيها باحثا عمّا يكفره، وما وجدت إلا منطق عالم موسوعي بالدين، وفقيه حاذق ومتمرس يطرح عبارات ذات كثافة فكرية عالية، متدفقة من عقل متنور وإدراك عرفاني سامي وخلاق، وما يذهب إليه هو أن يكون العقل مشاركا في تعزيز الإيمان والتفاعل الإبداعي مع الحياة بتساؤلاتها المتنوعة، والتي لا تحيد عن منطق الكون وخالقه العظيم.

ولا يوجد ما يستلزم تكفيره ونفيه وحرق كتبه فيما ذهب إليه ورأه، فكيف إستطاع المناوؤن لإبن رشد أن يكفروه، وهو أعلمهم بالفقه والدين والقرآن والعلوم الأخرى؟!

إنها مأساة الإجهاز على العقل العربي المنير بإسم المتاجرة السياسية بالدين؟!!

والخلاصة أن علينا أن نستخلص الدروس من نكبة إبن رشد، لا أن نستحضرها حرفيا، لأن في ذلك مخاصمة لمنهجه في إطلاق حرية العقل للتفاعل مع الذات والموضوع، والتواصل مع المستجدات والتطورات والمتغيرات الحاصلة فوق أرض تدور.

وقل عاش العقل، يا أمة يعقلون!!

 

د. صادق السامرائي

................................

النكبة: المصيبة

 

في المثقف اليوم