أقلام حرة

بغداد قلب الأمة!!

صادق السامرائيهذه ملاحظة تأريخية بحاجة لوقفة متأملة وتحليل عميق وهي متكررة، ولا يمكن القول بأن المصادفة يمكنها أن تفسرها.

 بغداد مدينة عريقة وساطعة منذ تأسيسها، وهي المدينة الوحيدة في الأرض التي كتب عنها ما لم يُكتب عن غيرها، وإن لم تصدقوا فتصفحوا ما كتبه إبن الخطيب البغدادي عنها، وما كتبه الذين قبله وبعده وحتى يومنا هذا.

بغداد سقطت في يوم الثلاثاء 8\2\1258 عندما دخلها الهولاكيون بقيادة هولاكو، وما وقف خليفتها وقفة تليق بها، وإنما إستسلم للغازي الذي تعامل معه على أنه أسير وأهانه وأذله ثم سحقه تحت سنابك خيله وهو ملفوف في سجادة من سجاجيد قصره المنيف.

وعمّ الخراب في حينها وإحترقت معالم بغداد وأرتكبت أفظع الجرائم ضد الإنسانية في أحيائها، فتم إبادة الآلاف من الأبرياء.

وبعدها تحرك الهولاكيون نحو الشام وفعلوا ما فعلوا بها، فدمروا وخربوا، وإستسلم الأمراء والحكام لهذا الغازي الذي أشاع الرعب في قلوب العباد.

ويُقال أن سقوط بغداد كان ضربة قاصمة لإرادة الأمة حتى تصور الناس أن الدنيا قد أشرفت على نهايتها، وأن لا مخرج من هذا البلاء العظيم الذي أصابة المسلمين.

وبعد الشام أراد الهولاكيون مصر، لكن إرادة قوية مؤمنة توثبت وما أذعنت وقررت المنازلة والمباغتة والهجوم، وكانت تلك هي إرادة سيف الدين قطز الذي تولى الحكم من أجل مواجهة التتار، وكان عهده مع نفسه ومعيته أن ينتصر عليهم، وتحقق له الفوز في معركة عين جالوت في 3\9\1260، التي كسر فيها شوكة التتار فاندحروا وإستعادت الأمة روحها وعزتها زكرامتها، وتوقد عزمها، وبعدها بأشهر قليلة تم قتل قطز!!

وفي 9\4\2003 سقطت بغداد بهجوم كبير تعاون فيه العرب وبعض العراقيين (مولودين في العراق) مع القوى التي إجتاحت البلاد، وحصل الدمار والخراب وقتل الأبرياء وتشردوا، وعمت التفاعلات السيئة المعادية لأبسط القيم والأخلاق التي تعارف عليها الناس، وإنتهى الحاكم بعدها نهاية يمكن مقارنتها بنهاية الخليفة المستعصم بالله آخر خلفاء الدولة العباسية.

وصار الحديث في وقتها أن القوات ستتوجه نحو الشام، لكنها أرجأت الخطة لأن النصر ليس بهين وأن الشام لديها قدرات الإكتفاء الذاتي، وفي عام 2011 وما بعده مضت عجلة الخراب والدمار لتمحق المدن والمعالم الشامية وتهجّر الملايين، وبعدها صارت الوجهة نحو مصر، لكنها أوجدت مَن ينقذها ويعيدها إلى سواء الطريق وينمي عزيمتها ويعلي إقتدارها ودورها، لتستنهض همة الأمة وتقودها إلى المستقبل الكبير، وهو يواجه التحديات الجسام والمخاطر العظام.

 ويبدو أن الأمة ترتكز حضاريا ومعنويا وفكريا على بغداد ودمشق والقاهرة، ولايمكنها أن تستغني عنهم، وعبر التأريخ الذين يستهدفون الأمة يريدون القضاء على هذه الحواضر الساطعة في مسيرتها الإنسانية، لكنهم جميعا ما إستطاعوا إسقاط الثلاثة في وقت واحد، لأن في ذلك نهاية الأمة وختام وجودها ودورها.

فإن سقطت بغداد لن تسقط القاهرة، وإن سقطت بغداد ودمشق لن تسقط القاهرة، وتلك إرادة الأمة ومنهج مقاوتها وآلة صلابتها وعزتها وكرامتها، فالقاهرة عمود الوجود العربي ورمز قوتها وإيمانها بصيرورتها الكبرى.

وفي كلتا الحالتين تأكد النشاط الأصولي وظهرت الدعوات المتشددة، ففي القرن الثالث عشر كانت الدعوات المتشددة في ذروتها، والفتاوى القاسية فاعلة في الناس وتحثهم على التصدي والتحدي والفداء، فكان لها دور فعال في إستعادة القوة والعزيمة.

وفي القرن الحادي والعشرين برزت ذات الدعوات بتشددية أعلى وبوسائل فتاكة، لكنها لم توجَّه نحو الهدف الحقيقي وإنما نحو صدور أبناء الأمة وأوطانها، ففعلت من البشائع ما لا يخطر على بال، وكأنها بدلا من أن تعين الأمة على الوقوف بوجه الهجمة صارت عاملا شرسا ومدمرا لوجود الأمة.

ولكي تتعافى الأمة وتتحرر من الأصوليات المقيتة والتداعيات المميتة، عليها أن تحرر بغداد من الضعف والتبعية والخنوع والتردي الفكري والثقافي والديني والأخلاقي، وأن تعيد لها شخصيتها وعروبتها ومكانتها الحضارية الريادية، الكفيلة بالحفاظ على عزة الأمة وكرامتها ومسيرتها الإنسانية السامقة.

وستنتصر الأمة اليوم مثلما إنتصرت على الهولاكيين ومَن آزروهم وقاتلوها معهم، نعم، ستنتصر على الغازين لها والتابعين لهم مهما توهموا القوة والقدرة والهيمنة والجبروت.

فالأمة حية خالدة لا تموت!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم